تبدو المشاركة الأميركية للقوات المسلحة الأردنية في عملية إنزال المساعدات الغذائية، يوم السبت الماضي، كما لو كانت نكتة، وذلك بالنظر إلى عدة عوامل، منها أن عمليات الإنزال الجوي للمساعدات الغذائية لقطاع غزة المنكوب بفعل الحرب الإسرائيلية الإجرامية المتواصلة منذ خمسة أشهر، لا تتعدى كونها رمزية، بالكاد تسد رمق من يحتضر، خاصة حين يجري الحديث عن مناطق شمال قطاع غزة، كذلك أن عمليات الإنزال الجوي، وهي تقليد أو أسلوب متبع عادة في مناطق يتعذر على منظمات الإغاثة الدولية لأسباب لها علاقة بالعقبات الجغرافية، إيصال تلك المواد للمحتاجين لها، في الوقت المناسب، وهنا الأمر مختلف، فمن يقف عائقا في طريق إيصال المواد الإغاثية، هو الجيش الإسرائيلي، الذي يصر على ارتكاب جريمة الحرب، بقتل المواطنين الفلسطينيين، إما بالقصف أو بالتجويع، ومنع الدواء وتدمير المستشفيات، أو بكليهما، كما حدث في دوار النابلسي، وما تبعه في دوار الكويت بمدينة غزة.
ومبكرا، لجأت القوات المسلحة الأردنية، ربما لأن الأردن أكثر بلد في العالم، يخشى من هدف الحرب الإسرائيلية الحالية، المتمثل بالتهجير القسري، إلى عمليات الإنزال الجوي، وذلك لأنه وقف عند الموقف الإسرائيلي الثابت تجاه عرقلة وصول الشاحنات من مصر إلى غزة، عبر معبر رفح، رغم أن الإنزال الجوي، خاصة حين يكون بهذا العدد المحدود من الطائرات، تجاه مئات الآلاف من البشر، لا يحل المشكلة، وفيما بعد توالت مشاركة بعض الدول العربية والغربية للأردن في عمليات الإنزال الجوي، حتى وصلت للولايات المتحدة، في أول مشاركة تبدو مثيرة إلى حدود كبيرة، وذلك نظرا لما تتمتع به أميركا بالذات من قدرة على وضع حد فوري لحرب التجويع الإسرائيلية، الأمر الذي لا تقدر عليه أي دولة أخرى.
وما يؤكد الاستغراب هو أن أميركا قد استخدمت قبل أيام قليلة للمرة الثالثة حق النقض الفيتو، وكانت هذه المرة هي الوحيدة مقابل 13 عضوا أيدوا مشروع بيان لمجلس الأمن (وامتناع بريطانيا) يعلن عن القلق العميق بعد ارتكاب إسرائيل للمجزرة الرهيبة التي أودت بحياة 116 جائعا احتشدوا في شارع الرشيد على البحر، لتلقي المواد الغذائية التي تلقي بها طائرات الإنزال الجوي، وذلك في رسالة إسرائيلية حاسمة، مفادها أنها مصرة على ارتكاب حرب الإبادة الجماعية، وعلى إفراغ شمال قطاع غزة، على الأقل من السكان، وهي بعد أن أجبرت معظم سكانه على النزوح، وبعد أن قتلت عشرات الآلاف، ودمرت كل مظاهر الحياة، وجعلت من شمال القطاع خاصة، منطقة غير قابلة للحياة، تصر على القضاء عمن تبقى فيه، ممن يصرون على تحديها وعلى البقاء في وطنهم، وهي أي إسرائيل تعلن بشكل صريح وواضح، بأنها ماضية في حرب الإبادة والتهجير، وستمنع عودة السكان ممن نزحوا، من الشمال للجنوب، رغم أنف واشنطن التي تقول بغير ذلك، ورغم أنف كل من يقف ضد إصرارها ذاك، بمحاولة إفشال هدف حربها هذا وإن كان ـــ بأضعف الأيمان ـــ الذي هو هنا الإنزال الجوي لمواد الإغاثة.
والحقيقة أن الفواصل المعلنة أو الخلافات بين الإدارة الأميركية والحكومة الإسرائيلية، متواصلة منذ بدء الحرب، وبعد أن سارع جو بايدن إلى الجلوس إلى جوار بنيامين نتنياهو على كرسي قيادة الحرب منذ يومها الأول، وسارع إلى المشاركة فيها، كما لو كانت إسرائيل ولاية أميركية، بدأت تظهر خلافات في المواقف، لم تؤثر حتى اللحظة، على المواقف الفعلية الأميركية الداعمة للحرب الإسرائيلية، حتى وفصولها تظهر تجاوز قوانين وأخلاق الحروب، وحتى اللحظة، حيث ما زالت أميركا تحارب ضد الحوثي في اليمن، وتشارك إسرائيل بحرب الاستخبارات، وتواصل تزويدها بالمال والعتاد، والأهم بالتغطية في المحافل الدولية، وبعد أن طالب بايدن نتنياهو أن يعلن عن أهداف الحرب العسكرية والسياسية، وأن يضع في حسبانه أن يستمر بها فقط أسابيع أو أشهرا قليلة، وبعد أن حددت تلك الفترة بنهاية العام المنصرم، واصل نتنياهو رفضه المواقف الأميركية، فيما واصلت أميركا دعم وإسناد إسرائيل فعليا عسكريا وسياسيا، ميدانيا وعالميا.
وأعلنت واشنطن رفضها تهجير الفلسطينيين لخارج وطنهم، لكنها وافقت على تهجيرهم داخل غزة، وحتى أنها موافقة على عملية في رفح، شرط أن يقدم لها نتنياهو خطة تتضمن عدم تعريض المدنيين لمجازر مهولة، ولأن ذلك يعني بعد فشل طرد السكان إلى مصر أو غيرها، أن تجري عملية إعادتهم من رفح والجنوب إلى غزة والشمال، وهذا يعني إفشال الهدف الإسرائيلي، الذي تظن إسرائيل أنها اقتربت من تحقيقه، بخفض عدد سكان شمال القطاع، بعد استحالة إفراغه بالكامل منهم، وقالت واشنطن بعودة السلطة إلى غزة، بعد تجديد شرعيتها، ورفض نتنياهو، بل ما زال يصر أولا على ممارسة القتل والعنف مع المستوطنين في الضفة والقدس أيضا، وثانيا على خنق السلطة، بهدف إسقاطها تماما، فيما تعني عودتها لغزة، إحياء حل الدولتين وفكرة الدولة الفلسطينية الواحدة في الضفة وغزة، كما أن نتنياهو لم يقدم لواشنطن ولا حتى ورقة توت، لتخفي بها عورة دعمها وتأييدها للحرب الإسرائيلية رغم أن العالم كله صار ضد تلك الحرب، فيما في ذلك حكومات الغرب، وأعداد متزايدة من الجمهور الأميركي نفسه.
لم يقدم نتنياهو لا لواشنطن ولا حتى لمحكمة العدل الدولية، ما يفيد بأنه بات مهتما بخفض أعداد الضحايا الفلسطينيين، فرغم أنه مضى على عقد المحكمة لجلساتها في محاكمة إسرائيل أكثر من شهر ونصف الشهر، إلا أن الضحايا من المدنيين الفلسطينيين ما زالوا يسقطون في غزة بمعدل أكثر من مئة شهيد يوميا، ونحو مائتي جريح، فيما كل مظاهر جرائم الحرب متواصلة، بما في ذلك منع دخول الطعام، والمساعدات الإغاثية، والدواء والماء، ومواصلة تحويل القطاع إلى منطقة منكوبة وغير قابلة للحياة، وصولا إلى الدليل القاطع على جريمة الحرب، متمثلة باستهداف الجوعى في لحظة تلقيهم المساعدات، ورغم ذلك تستخدم واشنطن حق النقض ضد مجرد بيان يبدي قلق مجلس الأمن إزاء تلك المجزرة المروعة.
وآخر محطات الخلاف بين بايدن ونتنياهو الذي يبدو كما لو كان خصمه الانتخابي، يتمثل في صفقة التبادل، التي يريدها بايدن ويرفضها نتنياهو، وبالطبع ـــ كما أسلفنا في مقال سابق ـــ كل منهما لهدف خاص به، لكن كليهما متعلق بمستقبل كل واحد منهما السياسي، ففي حين أن نتنياهو يسعى للإبقاء على الحرب، خاصة وهي تعجز عن تحقيق أي نصر عسكري أو سياسي إسرائيلي، للبقاء في الحكم، يريد بايدن الصفقة التي من شأنها فقط أن تطلق سراح الرهائن المحتجزين لدى «حماس»، لتساعده في سعيه للبقاء في البيت الأبيض لولاية ثانية، وقد سارع بايدن قبل أيام لإلقاء كامل ثقل إدارته وراء إنجاز تلك الصفقة، حتى لو جاءت بشكل متدرج، أي وفق منطق المراحل، أو بالتحديد على 3 مراحل، تتضمن الأولى وقف القتال ستة أسابيع وإطلاق سرح 40 رهينة مقابل نحو 400 أسير فلسطيني، فيما مواصلة فصول الصفقة يعتمد على ما ستكون عليه ظروف الطرفين لاحقا، أي يمكن أن تتوقف فصولها بعد المرحلة الأولى ـــ كما كان حال أوسلو مثلا ـــ، وقد سارع بايدن لمزيد من الضغط على نتنياهو، لوقف الحرب على الأقل في رمضان لتجنب حرب الجبهات كلها معا، بالقول، إن الاتفاق سيكون يوم الاثنين، أي يوم أمس.
ولم ينجح بايدن بالطبع، وإن كان نجح فقط في إجبار نتنياهو على الدخول في مفاوضات حول الصفقة بعد أن توقفت تلك المفاوضات بعد إطار باريس، الشهر الماضي، ونجح في قطع الطريق على التهديد بالعملية البرية في رفح، وإن كان واضحا أن تلك التهديدات الإسرائيلية كانت من قبيل الضغط التفاوضي فيما يخص بنود صفقة التبادل، وهكذا تمضي الأمور، بحيث يمكن القول، إن الخلاف الذي لم ينعكس أبدا على الدعم العسكري والسياسي الأميركي للحرب الإسرائيلية، إنما ينحصر بين بايدن ونتنياهو، ذلك أن فوز الأول بالولاية الثانية يكون على حساب خروج الثاني من الحياة السياسية، وقد تأكد أن نتنياهو اختار بن غفير وسموتريتش على بايدن، وهكذا فإن لعبة شد الحبل بينهما ستنتهي لا محالة بسقوط أحدهما، لكن السؤال هو من منهما يسقط الآخر، أم أن الاثنين سيسقطان معا، بعد أن يخرب كل منهما على الآخر، ذلك أن بايدن لم يقنع مناوئي الحرب بممارسة الضغط الكافي على نتنياهو الذي يقوم بحرق مكانة وصورة إسرائيل في العالم.