تدخل حرب الإبادة على شعبنا في قطاع غزة شهرها التاسع بارتكاب قوات الاحتلال مجزرة فظيعة في مخيم النصيرات ذهب ضحيتها المئات من النازحين والمدنيين الأبرياء. وتكشف هذه المجزرة، التي تمت بمشاركة أمريكية، دون مجرد الإشارة للأطفال والنساء والشيوخ الذين قتلوا بوحشية، طبيعة الدور والشراكة الأمريكية في هذه الحرب. فما أظهرته بعض وسائل الإعلام من مشاهد خلال تنفيذ المجزرة والتي تضمنت قطع رؤوس وخروج أحشاء بعض الضحايا، لا يمكن لإنسان غير مريض بداء الإجرام أن يستطيع مشاهدتها. فهل حقاً تريد واشنطن التي تتباكى على الأطفال والنساء، وقف قطار الموت عن حصد المزيد من أرواح الغزيين والتنكيل بهم ؟!
واشنطن: غطاء مستمر لحرب الابادة
لقد عطلت واشنطن خلال الشهور الثمانية الماضية أكثر من مشروع قرار لمجلس الأمن لوقف هذه المذبحة، مقدمة بذلك الغطاء السياسي والقانوني لاستمرارها، ومرددة أكاذيب نتنياهو التي دحضتها حتى وسائل إعلام أمريكية وإسرائيلية، ناهيك عن جسور الإسناد المالي والعسكري بكل أسلحة الحرب الفتاكة التي ما زالت تحصد أرواح الأبرياء، بالإضافة لمحاولاتها المستمرة والمحمومة لتعطيل قرارات محكمتي العدل والجنائية الدوليتين، الأمر الذي قد يهدد المنظومة الدولية برمتها بالتعطيل وخطر شريعة الغاب.
ذلك كله، بينما يستمر نتنياهو وعصابته الكاهانية في توجيه الإهانة تلو الأخرى لشركائه في واشنطن، بل ويعرّض فرص بايدن الانتخابية للخطر جراء التحولات الهائلة في الرأي العام الأمريكي والدولي، إلا أن بايدن وبلينكن وسوليفان الذين يجاهرون بصهيونيتهم لا يتحركون سوى من منطلق الحرص على إسرائيل من نفسها، وعلى حساب دماء الأبرياء. وما ادعاءات الخطوط الحمر الفارغة عن رفح وغيرها سوى الحرص على أمن إسرائيل على حساب أمن واستقرار المنطقة الملتهبة بفعل تغييب العدالة وحاجتها للاستقرار بوضع حد لمجازر إسرائيل وأطماعها التوسعية على حساب الأرض الفلسطينية وحق الشعب الفلسطيني في الحرية والعودة وتقرير المصير.
نتنياهو والڤيتو ضد دولة فلسطين
واشنطن التي حاولت خلال أشهر الحرب الأولى الإشارة لأهمية معالجة جذور الصراع، عادت ورضخت لإملاءات نتنياهو، وسحبت من التداول أي حديث عن وحدة الأرض الفلسطينية المحتلة، والحاجة لسلطة فلسطينية واحدة تمثل جميع الفلسطينيين، الأمر الذي يرفضه نتنياهو جملة وتفصيلاً كي لا يفتح الباب نحو إرادة المجتمع الدولي وشعوب العالم في الاعتراف بحق تقرير المصير وإقامة دولة فلسطينية مستقلة كما فعلت عدد من الدول الأوروبية مؤخراً بعد صدور قرار الجمعية العامة الذي أكد حق الشعب الفلسطيني بعضوية دولة فلسطين الكاملة في الأمم المتحدة بتصويت 147.
في الوقت الذي تتعمق فيه عزلة إسرائيل، حيث لم تبق دولة قادرة على الدفاع عن جرائمها سوى واشنطن، تستمر حكومة العصابة الكاهانية في عدم اكتراثها بتحولات الرأي العام، طالما هي مستمرة بالحصول على دعم واشنطن، وطالما استمر ضعف النظام العربي على حاله، ومعه حالة الوهن والانقسام والرهان على الوهم من قبل القيادة المتنفذة للسلطة ومنظمة التحرير. فمعيار الهزيمة والنصر بالنسبة لنتنياهو، وبالإضافة لما يحققه من مذبحة مفتوحة ضد الأبرياء في قطاع غزة وتدمير كل مقومات الحياة فيه، هو منع وحدة الفلسطينيين لوأد قدرتهم على انتزاع حق تقرير المصير والحرية والسيادة في دولة مستقلة وعاصمتها القدس .
لا بديل عن الكيانية الموحدة وأطرها الجامعة
وبغض النظر عن الأسئلة والملاحظات سواء كانت المشروعة أو حتى غير المشروعة، فقد وفرت حرب الإبادة التي تستهدف جميع الفلسطينيين وحقوقهم الثابتة، فرصة ذهبية لتحقيق مُدخلات هذه الوحدة في سياق متطلبات استعادة وحدة الكيانية الوطنية ومؤسساتها الجامعة على صعيد كل من المنظمة بدخول حركتي حماس والجهاد لأطرها، وعلى صعيد السلطة بتشكيل حكومة وفاق وطني تتصدى لأولويات وقف الحرب بمساندة شروط المقاومة والشعب الفلسطيني، و لمهام الإغاثة والإيواء والإعمار وتعزيز الصمود، بما في ذلك في الضفة المحتلة، بما فيها القدس، لإفشال مخططات الضم والتهجير، وإعادة الحياة لطاقات الفلسطينيين في إعادة بناء وطنهم ونظامهم السياسي على أساس وطني ديمقراطي من خلال انتخابات شاملة بعيداً عن الرهانات والأوهام التي تحاول واشنطن تمريرها بين الفينة والأخرى دون خطة واضحة ومحددة تبدأ بالاعتراف الكامل بحق تقرير المصير والحقوق الوطنية التي أقرتها الشرعية الدولية، والتفاوض على جدول زمني لإنهاء الاحتلال عن مجمل أرض فلسطين المحتلة منذ الخامس من حزيران 1967، وفي مقدمتها القدس .
تفرد بالقرار السياسي
إن فشل القيادة المتنفذة في الاستجابة لمطالب الإجماع الوطني والشعبي، وإصرارها على الانفراد بالقرار السياسي على حساب إمكانية وضرورة استعادة وحدة مؤسسات الوطنية الجامعة، يتطلب المزيد من تضافر كل الجهود الوطنية المخلصة، لاسترداد دور ومكانة هذه المؤسسات سواء على صعيد المنظمة لقيادة النضال الوطني كونها جبهة وطنية عريضة تضم الجميع، أو على صعيد السلطة وأولويتها الأساسية لتعزيز صمود شعبنا وقدرته على البقاء على أرض وطنه. فلم يعد هناك أي مجال لاستمرار سياسة احتكار السلطة والقرار في هذه المؤسسات التمثيلية باغلاق أبوابها من أي جهة كانت، وأما سياسة توزيع الاتهامات لكل من يحاول استعادة دور ومكانة المنظمة كجبهة وطنية عريضة تضم الجميع، وكأنه انقلاب أو بديل لها، فلم تعد تنطلي على أحد . فالخطر الوحيد على منظمة التحرير ومكانتها التمثيلية هو في استمرار الانقسام وتخلي قيادتها المتنفذة عن دورها في الدفاع عن شعبنا ومصالحه واستعادة وحدته. فالأولوية العليا أمام شعبنا اليوم تتمثل بوحدة كل الجهود لوقف حرب الإبادة وهزيمة أهدافها، وعلينا أن ندرك بأن التصدي لمحاولات فرض الرؤية الاسرائيلية لما يسمى باليوم التالي لا يمكن أن يتم سوى بموقف ورؤية وخطة وأطر فلسطينية موحدة . وأن ذلك يتطلب الارتقاء بالمسؤولية الوطنية، وعدم الانجرار إلى براثن أكاذيب نتنياهو بأن حربه تنحصر مع حماس وفصائل المقاومة، ومحاولاته تحميلها المسؤولية عن أرواح الضحايا، فذلك ليس سوى سقوط مدوٍّ من مروجي هذه الأكاذيب في فخ تبرئة المجرم ولوم الضحية .
وفي نفس الوقت، فإن تفويت الفرصة على إسرائيل ومؤيديها للتنصل من جرائمهم يتطلب ضرورة التمييز بين شكوى الناس التي أرهقتها الحرب، وضرورة الاستماع لأنينها وألمها، وبين توظيف هذه الشكوى بطريقة لا تخدم سوى مجرمي الحرب الذين تضيق خناق العدالة على رقابهم يوماً بعد يوم .
وفرت حرب الإبادة التي تستهدف جميع الفلسطينيين وحقوقهم الثابتة، فرصة ذهبية لتحقيق مُدخلات هذه الوحدة في سياق متطلبات استعادة وحدة الكيانية الوطنية ومؤسساتها الجامعة.