الصحافة الإسرائيلية والاستلاب الفكري

تنزيل (15).jpg
حجم الخط

بقلم : عبد الغني سلامة

 

في ثقافتنا الشعبية السائدة كل خبر مصدره إسرائيلي، سواء من الصحافة أو من الحكومة أو من المعارضة، هو خبر موثوق ومصدَّق وحقيقي! بل هو حجة علينا، وبديل عن التفكير والتمعن وقراءة الواقع بتجرد! حتى لو كان «بوست» على منصات التواصل نتعامل معه بجدية وحزم ونستقوي به على الرأي الآخر، ويغدو دليلاً دامغاً على صحة توجهاتنا، ويعطينا الحق بإصدار الأحكام وتصنيف الخصوم.. لمجرد أن مصدره مسؤول أو كاتب إسرائيلي!
والمشكلة أن من يدّعون الوعي ويعرفون أن الإعلام الإسرائيلي مسيّس ويكذب، حتى هؤلاء يتعاملون معه بانتقائية ومزاجية، فيصدقون الخبر ويتناقلونه إذا جاء على هواهم، ويقولون عنه إنه كذب وإشاعة إذا تعارض مع أفكارهم وتوجهاتهم!
وطبعاً هذا لا يعني أن كل ما يصدر عن الإعلام الإسرائيلي كذب وتدليس وتزوير.. بل هو في حقيقة الأمر أحياناً يكون صحيحاً ودقيقاً، وأحياناً يكون كذباً وتضليلاً، وحتى نستطيع التمييز، وكي لا نتعامل بانتقائية يتوجب فهم المحددات والمعايير التي من خلالها يمكن فهم الحقيقة.
بداية، من الخطأ الاعتقاد أن إسرائيل كتلة صماء متجانسة ويمثلها موقف موحد أو توجه واحد.. سواء على مستوى المجتمع أو الدولة أو الحياة السياسية والحزبية، أو مراكز القوى، والدولة العميقة.. في كل مستوى ستجد تناقضات وتوجهات متباينة وآراء متعددة، وصراعات وتنافساً ومزايدات.. والأمر ذاته ينطبق على وسائل الإعلام؛ فهناك إعلام رسمي، وإعلام حزبي، وصحف تمثل اتجاهات فكرية وسياسية مختلفة، وثمة فرق كبير بين صحيفة «يسرائيل هيوم» الناطقة باسم نتنياهو، والتي لا تختلف عن إعلام الحزب الحاكم في الأنظمة الشمولية، وبين صحيفة «هآرتس» المعارضة ذات التوجه اليساري، وهناك تباين كبير في وجهات النظر بين الكتاب والصحافيين، فلدينا أميرة هاس، وجدعون ليفي وإيلين بابيه (فضلاً عن المؤرخين الجدد)، مقابل أغلبية ساحقة من الصحافيين الإسرائيليين الذين باعوا ضمائرهم المهنية والأخلاقية، وصاروا أكثر دموية من الجنود القتلة.
وهناك أيضاً تباين في توجهات القنوات التلفزيونية، والمواقع الإخبارية، والكثير منها ذات توجهات دعائية وشعبوية، وتفتقر للمصداقية والمهنية. والأهم أن الإعلام الرسمي وشبه الرسمي يخضع لتوجهات وتعليمات أجهزة الأمن، والتي تمارس دورها في سياق الحرب النفسية التي تشنها على شعبنا، ليس الآن وحسب، بل ومنذ نشأة إسرائيل. وعندما تنشر خبراً (أو تتعمد تسريبه) فيكون لغرض سياسي، قد يكون الخبر صحيحاً، أو مفبركاً، أو فيه مبالغة أو انتقاص، لكن صياغته تمت بعلم وتدبير متخصصين في الحرب النفسية.
وإسرائيل لا تعادي فصيلاً معيناً، أو تياراً سياسياً دون غيره، أو قائداً سياسياً بعينه وتتسامح مع الآخرين.. هي تعادي كل الشعب الفلسطيني، بفصائله، وشرائحه الاجتماعية، وقواه السياسية، بمناضليه ومدنييه، بمفكريه ونشطائه وصغاره وكباره والمتعلمين والأميين.. لأنها تستهدف وجوده في الأساس.
ما تفعله المخابرات الإسرائيلية أنها تطلق الإشاعة، ونحن نلتقطها وننشرها! تعمّم مفهوماً معيناً في إطار عمليات كيّ الوعي ونحن نسلّم به ونروّجه! هي تقول «المبتدأ»، ونحن نكمل «الخبر»، فتصبح «الجملة» جاهزة! هي تكتفي بالتلميح ونحن نقوم بالشرح والإضافة! لا حاجة لها بتجنيد عملاء، تكتفي ببعض الأغبياء والمتعصبين. 
وإذا استبعدنا دور المخابرات والحرب النفسية، سنجد أيضاً أن الكثير من التصريحات والمواقف (للقادة والمسؤولين والإعلاميين) إما في سياق الصراعات الداخلية، أو التعبئة والتحريض، أو المزايدة، أو الفهم المغلوط، أو التخوفات والقلق، أو الأماني والأوهام.  
مشكلتنا أننا نهتم بتسريب صغير عن جدل فارغ بين قائدين، أو موقف عادي لرئيس الحكومة أو معارضيه.. فنستهلك ساعات من الجدل، وتبدأ الفضائيات بموجة بث مفتوحة، وتستدعي الخبراء في الشأن الإسرائيلي.. أما خبر عن تدمير حي كامل بصاروخ ومقتل مئات المدنيين، ومعاناة مليون نازح، فبالكاد يحظى بدقائق معدودة. 
مشكلتنا الأخطر تتمثل في تضخيم الخلافات الداخلية الإسرائيلية، والتعويل عليها بأنها ستنهي الحرب، بل ستنهي إسرائيل نفسها.. علماً أنها مجرد خلافات على المناصب والوزارات وعلى الأسلوب والجداول الزمنية، وعلى قوة الضربة أو تخفيفها، أو في إطار الطموحات الشخصية والمزايدات.
يحلو لبعضنا القول: إن إسرائيل دولة فاسدة ويحكمها رؤساء فاسدون (أولمرت، كتساف، نتنياهو..) ولا شك أنها كيان فاسد لمجرد وجوده كقوة استعمارية إحلالية مجرمة، ولكن عرض رئيس الحكومة أمام محكمة الفساد دليل على قوة القضاء، وبالتالي منعة الدولة.. وماذا بشأن الرؤساء العرب الذين لا يجرؤ أحد على اتهامهم بالفساد أو حتى انتقاد لون البدلة التي يرتدونها؟!
ما نشاهده من حراك سياسي، وصراعات داخلية، وخلافات متصاعدة وعلنية بين الأحزاب والأقطاب السياسية، وتظاهرات الشوارع، وصراخات داخل الكنيست، وخلافات حادة حول الصفقة والهدنة، واستقالات..إلخ، على عكس ما نتصوره؛ فهذه الخلافات لا تعبر بالضرورة عن مأزق داخلي وجودي بالمعنى السلبي، بقدر ما تعبر عن دولة منيعة ومجتمع ديناميكي ضمن إطار مؤسسات فاعلة واعية لأهمية المرحلة وارتداداتها المستقبلية، وهي متفقة على الغايات والأهداف الكبرى، لكنها مختلفة على الأسلوب الأمثل لتحقيقها.
مع التأكيد على وجود خلافات عميقة وحقيقية على هوية الدولة والمجتمع والمؤسسات ومن يسيطر عليها، بدأت حول مسألة الإصلاحات القضائية، وستتعمق أكثر فأكثر، وستشكل إرهاصات تفكك إسرائيل، ولكن بعد وقت غير معلوم.
ما أود قوله: إن التعويل والبناء على خلافات داخل الحكومة ومجلس الحرب لن يفيدنا بشيء، والأَولى أن نهتم بأنفسنا، ونبدأ بالحديث عن «مأزقنا» و»أزماتنا» و»صراعاتنا» و»انقسامنا».. وعن الحياة السياسية، ودور الفصائل، والانتخابات، وأن نجري نقداً ذاتياً وتقييماً شجاعاً لمجمل أوضاعنا.. وقبل ذلك كيف ننهي الحرب، وننقذ ما تبقى من أهل غزة وما تبقى من بنيانها قبل فوات الأوان. 
وهنا يأتي دور منظمة التحرير ومؤسساتها، و»فتح» وسائر الفصائل الوطنية، والأحزاب والقوى والفعاليات والمجتمع المدني ومنظماته، والنقابات والاتحادات والأطر الشبابية والطلابية والنسوية، ودور «حماس»، و»الجهاد»، والنخب المثقفة والكتّاب والأدباء والإعلاميين. 
هذه المرحلة الأهم للفلسطينيين، والأخطر في تاريخهم، وستكون هزيمتنا مضاعفة إذا مرت وانقضت واستمر هذا الخواء السياسي، وهذا التصحر الفكري والثقافي، وإذا استمر المجتمع بكل مكوناته متفرجاً، وإذا لم نقم بالتغيير الشامل، وننتقد كل من أخطأ، ونحاسب كل من تخاذل. 
سنُهزم إذا اعتقدنا أن غزة ستنتصر لوحدها، أو أن إسرائيل ستنهار من تلقاء نفسها.
سنُهزم إذا لم نتسلح بالوعي.