قليلٌ هم الذين عرفوا النائب محمد دحلان (أبو فادي) خارج سياق العمل الأمني والتنظيمي، وإن كان الجانب الإنساني دائم الحضور والسكنى في شخصيته، وهو سلوك غالباً ما يكون فيه شيءٌ ورثه دحلان الطفل من أمه وأبيه، وله أصلٌ وبُعدٌ عائلي.
فرغم الفقر الذي عايشته أسرته في مخيم خانيونس للاجئين، إلا أنَّ يدَ والدته كانت فيها مسحةٌ من الجود والكرم بما كانت تسمح به الظروف المعيشية الصعبة للاجئين، إذ كانت إمكانيات الحياة المتواضعة تتساوى بين الناس، من حيث البساطة والفقر والفاقة، إلا أنَّ السكان في المخيم كانوا -عادة- ما يتبادلون رغيف الخبز وصحن الطبيخ، وكان "طبق الطعام" الذي يتناولنه الجيران بكرمٍ بينهم هو روح المخيم وأصالة ساكنيه، مع صعوبة العيش وضيق ذات اليد، وكلّه يأتي في سياق ثقافتنا الشعبية (تفضَّل.. شاركنا على ما قُسم).. وكما قال الشاعر: إنَّ الكرامَ وإن ضاقت معيشتهم... دامت فضائلهم والأصل غلَّابُ.
قبل عملية (طوفان الأقصى) في السابع من أكتوبر 2023، وإعلان الحرب على قطاع غزة بعدة أيام، جمعتني في الإمارات أكثر من جلسة ضيافة وحوار بالأخ محمد دحلان، وكذلك بأخيه رجل الأعمال (أبو أحمد)، وقد لمستُ هذا الطبع من الجود والكرم لدى زيارتي لكلِّ واحدٍ منهما.. ومن واقع معرفتي به من خلال إخوتي الذين كانت تجمعه بهم صداقات عمل أو ممن كانوا من الأصدقاء المقربين مني ومنه، فقد سمعت ما يؤكد هذه الخصلة من أصالة الكرم فيه وفي أهله.
ولمَّا كان الكرم وجهاً من وجوه العطاء الإنساني، أدركت لماذا قرَّر دحلان أن تكون وجهته خلال الحرب على قطاع غزة هي التعهد بأنَّ تكون هذه اللفتة من التحركات الخيرية في سياق الضرورة الإنسانية هي "قبلة" توجهاته ومحط تركيزه، وأحد أهم أولوياته، والتي بدأت بالمستشفى الإماراتي الميداني، الذي حطَّ رحاله مع الأيام الأولى على أرض مدينة رفح، ليكون قريباً من الناس والتخفيف من آلامهم وتطبيب جرحاهم، وتحويل من تعقدت حالاتهم الصحية للسفر خارج البلاد، لتلقي العلاج في المستشفيات المصرية والإماراتية، مع التعهد بتغطية المصاريف التي تتطلبها كلفة استضافتهم للعلاج وخلال فترة النقاهة، وقد كنت على ذلك من الشاهدين في تسهيل خروج البعض من هؤلاء المرضى والمصابين للخارج بغض النظر عن طبيعة الهوية والانتماء الحزبي.
وفي سياق ضغط حاجة الكثيرين من الطلاب ورجال الأعمال للسفر، كانت تحركات دحلان وتوجهاته مع السلطات المصرية، والتي أثمرت جهوده بتيسيرها لسفر الآلاف منهم، إضافة لدعم عشرات التكايا المنتشرة في أوساط النازحين بين المدن ومخيمات القطاع، التي وجد أهلها -بسبب هذا العدوان الاسرائيلي الوحشي- أنفسهم منكشفين؛ لا مال ولا طعام ولا ستر حال، أما أجسادهم فقد اكتظت بها مساحات الخيام تحت فضاءات السماء والطارق، وكما يقولون في الأمثال: "ربيِّ كما خلقتني".
كانت مخازن التيار الإصلاحي في العديد من مدن القطاع التي تعَّرض أهلها للنزوح، هي الملاذ الآمن -نسبياً- للعديد من نشطاء الجمعيات الخيرية وأصحاب التكايا المختلفة التي تُقدّم وجبات الطعام مرة أو مرتين في اليوم والليلة.
ومع إطالة أمد الحرب ودخولها شهرها التاسع، كان الأخ أبو فادي يرسل عطاياه ومساعداته المالية لسدِّ جوانبٍ من الفراغ الذي لم تملأه خدمات التكايا.
كما ذكرت، لم يتخلَّ دحلان عن إرسال المساعدات المالية، والتي تمكنَّا بفضل بعضها من توزيع هدايا وهبات نقدية للنازحين عندنا بمخيم "منتزه النخيل" الأول والثاني، والمساهمة في شراء الكثير من الأثاث (فرشات وبطانيات وملابس للصغار والكبار)، وإقامة مرافق خدميِّة عامة (مراحيض وحمامات) داخل المخيم بشكل يحفظ للناس سترهم وكرامتهم، وشراء أساسيات ومستلزمات لأطفالهم لا تغطيها الطرود الغذائية، إضافة لنقطة طبية تُقدّم العلاج المجاني للنازحين في المخيم والجوار.
وفي أكثر من محطة من محطات الحاجة المالية والإنسانية الماسّة لبعض النازحين، كان بيننا أكثر من اتصال أو تواصل، فكان بجوده وكرمه صاحب عطاء وكلمة وسواء، يجنبنا ضغط حاجات هؤلاء النازحين، الذين حطوا رحالهم إلى جوار موطن سُكنانا في حي (تل السلطان) بمدينة رفح أو المواصي الممتدة على طول شاطئ بحر خانيونس.
لن أنسى للأخ محمد دحلان (أبو فادي) وقفاته الإنسانية واستجاباته السخيِّة عندما كانت تضغطنا الحاجة، فقد كان من بين أصدقائي القلائل الذين لم يتخلَّفوا عند المناشدة والسؤال.
نعم؛ دحلان كان في عمله الحكومي رجلَ أمنٍ بامتياز، ثم مارس -بنضجه النضالي- السياسة باقتدار.
اليوم؛ وفي سياق حرب الإبادة الجماعية التي تقوم بها إسرائيل على قطاع غزة، تظهر قيمة الجهود الإنسانية التي يقوم بها دحلان، وهي بمثابة محطة اختبار لشهادة عشرات الآلاف من النازحين بأنه كان عند حُسن الظنِّ به، إذ وصلت تلك الطرود الغذائية والمساعدات الإنسانية والإغاثية من الملابس والأغطية والخيام، والتي كان له ولدولة الإمارات قصب السبق في توفير الكثير منها لمراكز الإيواء المنتشرة على مساحات واسعة محاذية لشاطئ البحر (منطقة المواصي)، والممتدة من رفح إلى خانيونس.
ختاماً.. سيبقى دحلان في ذاكرة النازحين بمثابة الرجل الذي أفرغ جهده لمنح أبناء شعبه لفتةَ عطاءٍ إنسانية، ما كانت لتتم بهذا السخاء والاستمرارية لولا علاقاته الوطيدة كأحد مستشاري الشيخ محمد بن زايد؛ حاكم دولة الإمارات.
ستمضي هذه الصفحات من سرديّة العطاء الإنساني للنائب محمد دحلان، مسجلةً معها سيرة عطرة في مشهدية النهج والأثر.
*صفحات من كتابنا القادم (رغم الخصومة.. دحلان كما عرفته)