لا أحد في إسرائيل غير رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، يقود ويدير الحرب العدوانية التي يشنها جيشه على الفلسطينيين في قطاع غزة، رغم الضجيج حول خلافات هنا وهناك بينه وبين المستوى العسكري ممثلاً في بعض النخب، وفي مقدمتهم وزير دفاعه يوآف غالانت.
وكأنه يشخصن هذه الحرب ويضع فيها كل كرهه وحقده للفلسطينيين، إلى درجة أنه لا يسمع أحداً سوى نفسه، ويأخذ القرارات التي يراها مناسبة حتى لو كلفه ذلك هجوماً لاذعاً عليه، سواء في الداخل الإسرائيلي أو من قبل أهم حلفائه الولايات المتحدة الأميركية.
السؤال المطروح هنا: ما الذي يدفع نتنياهو إلى التمسك بمواقفه تجاه قطاع غزة من حيث رفع يافطة اللاءات الثلاث، لا لوقف الحرب، لا للانسحاب من محور فيلادلفيا، لا لحكومة تديرها حركة "حماس" في غزة، وما الذي يجعله مصمماً على هذه الشروط رغم أن جيشه لم يحقق الأهداف ولم يرفع راية النصر.
في البداية من المهم التأكيد أن رئيس الوزراء الإسرائيلي لا يريد للحرب أن تتوقف، لأنه حينذاك ستأتي ساعة الحساب وسيتحول من سيد القرار في الحكومة والآمر الناهي، إلى المشكوك في صوابية قراراته والمسؤول الأول والأخير عن الإخفاق في حماية المواطنين منذ عملية "طوفان الأقصى" وما بعدها.
أيضاً هو يرغب أن يحدث تحولات عميقة في بنية وتركيبة المجتمع الإسرائيلي بشيطنة الفلسطينيين كل الوقت، بحيث يحوله عن بكرة أبيه إلى مجتمع يميني متطرف، الأمر الذي يُسهّل عليه تمرير مخططاته الاستيطانية والتهجيرية في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة.
الآن حدث أن دمّرت إسرائيل غزة وحوّلتها إلى العصور الحجرية، وحدث أن ارتكب الاحتلال أبشع الفظاعات والمجازر التي طالت ومسحت عائلات بأكملها من السجل المدني، بصرف النظر إن حققت إسرائيل أهدافها بالقضاء على "حماس" أو لم تحقق ذلك.
في كل إسرائيل لا يوجد هناك صوت واحد يقول لنتنياهو: أوقف المجازر بحق الفلسطينيين في غزة. الجميع متفق على معاقبة الفلسطينيين وإراقة دمهم، لكن الخلاف على إدارة الحرب وثمة من يدعو لوقفها لعودة الأسرى الإسرائيليين لدى "حماس".
من غير المستبعد أن يكون رئيس الوزراء على دراية بمخطط "حماس" للهجوم على غلاف غزة والمستوطنات في شمالها صبيحة السابع من تشرين الأول الماضي، وقد يكون انتظر هذه الفرصة حتى يُسوّق للعالم أن إسرائيل وقعت ضحية هذا الفعل الفلسطيني وينفذ مخططاته التصفوية في حقهم بغطاء من المجتمع الدولي.
لا تهدأ في غزة كل أنواع المُسيّرات وما تسمى "الزنانات"، وكاميرات المراقبة التي تراقب الفلسطينيين عن كثب، وقد تكون الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الإسرائيلية قد التقطت مؤشرات على تحركات عناصر "حماس" على الحدود مع الاحتلال، ومع ذلك حدث ما حدث.
في كل الأحوال إسرائيل فشلت الفشل الذريع في حماية أمنها يوم السابع من تشرين الأول الماضي، وكشفت للعالم أنها نمر من ورق، وبالتأكيد ليس من مصلحة نتنياهو أن يعاد فتح هذا "الدفتر"، لأن نهاية الحرب ستقود إلى حيث وضعه في خانة المسؤولية عن هذا الفشل.
أضف إلى ذلك أن إسرائيل، التي لم تتمكن من تحقيق أهدافها بالحل العسكري، ستفعل المستحيل بالفعل السياسي، وهنا يجد نتنياهو أن التمسك بلاءاته ستعوضه عن الفشل العسكري في غزة، ولن يبدو أمام منافسيه في إسرائيل ولا في العالم في منظر الطرف الضعيف.
كما أنه قد يراهن في إطالة هذه الحرب على الانتخابات الأميركية المقرر عقدها بعد أكثر من شهرين بقليل، وما ستحمله من نتائج قد تكون مفيدة بالنسبة له وهو الذي يحلم ويتمنى فوز صديقه الجمهوري دونالد ترامب الذي يدعمه بـ"الباع والذراع"، ويبصم معه بـ"العشرة" في كل الخطوات التي يخطوها ضد الفلسطينيين.
طالما أن الحرب لم تحقق أهدافها، فهذا يعني أن نتنياهو ليس في وارد الخروج للمجتمع الإسرائيلي والعالم على أنه الطرف المهزوم في هذه المعادلة، ولذلك تهمّه سمعته كثيراً ولا يريد للصحافة والإعلام أن يذكراه على أنه فشل في هذا الاختبار ووضع إسرائيل في الخطر وجعلها "علكة" في فم الجميع.
نعم صورة إسرائيل اهتزت كثيراً أمام المجتمع الدولي الذي عدّها الدولة التي لا تقهر، لكنها الدولة التي تقهر وتمرغ في التراب من شعب فلسطيني أعزل يقاومها بأبسط الإمكانيات. نتنياهو يريد أن ينتصر هو أولاً ثم إسرائيل على حساب كل رضيع وطفل فلسطيني.
لا يهمّه كم قتل ومن قتل وكيف صارت غزة خرابة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، المهم أن يخرج مثل "الطاووس" منتصراً في هذه الحرب وبائعاً بعض الكلام المعسول للمجتمع الإسرائيلي وكل العالم أنه أنقذ إسرائيل من محاولات اختراقها وزعزعة أمنها الإستراتيجي.