شهدت الأيام الماضية دخول عشرات الشاحنات المحملة بالدقيق وأنواع متنوعة من الخضار والفواكه، بالإضافة إلى كمية محدودة من الوقود، إلى شمال قطاع غزة عبر حاجز بيت حانون "إيرز"، بعد حصار دام 11 شهرًا، في ظل الحرب المستمرة على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
هذه الفرحة لم تكتمل لدى سكان شمال غزّة، الذين عاشوا حالة من الحرمان الحقيقي طوال تلك الأشهر، بسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية التي رافقت دخول الشاحنات، إلى جانب استياء تام من الأوضاع المعيشية التي تتفاقم بفعل انعدام مصادر الدخل ونقص السيولة المالية.
بعد انتظار طويل ومحاولات كثيرة من الأهالي لتوفير احتياجاتهم الأساسية، وجدوا أنفسهم في مواجهة مباشرة مع أسعار مرتفعة لا تتناسب مع قدراتهم المادية المحدودة.
كما أنَّ السكان الذين عاشوا حرمانًا طويلاً، لم يستطيعوا شراء البضائع التي دخلت مؤخرًا بسبب الارتفاع الكبير في الأسعار.
حالة الاستنفار في شمال غزة واضحة، حيث يرى الأهالي أنَّ تجار القطاع يتحملون جزءًا كبيرًا من المسؤولية عن هذه الأزمة، خاصة في ظل استغلال بعض التجار الوضع لرفع الأسعار بشكل غير معقول.
وتأتي هذه الأزمة في ظل توترات داخلية حيث يروج عدد من النشطاء الفلسطينيين، المتواجدين أغلبهم في الخارج، لفكرة الانقلاب على التجار والمطالبة بمحاسبتهم على ما يرونه جشعًا واستغلالًا للمواطنين.
في حديث خاص مع تاجر المواد الغذائية في غزة، عيد عمر حمادة، أوضح لمراسلة "خبر"، أنّه منذ بدء الحرب على القطاع لم يتمكن من إدخال أي نوع من البضائع بسبب الظروف القهرية والأمنية المفروضة.
وقال: "إن بداية الصراع في السابع من أكتوبر شهدت نفاد أغلب الأصناف الغذائية التي كان يحتفظ بها في مخازن شركته، حيث قام ببيع معظمها للجمعيات والمؤسسات الإغاثية بأسعارها الطبيعية، دون استغلال فرصة شح الموارد".
وأضاف: "إنّه ورغم التحديات الأمنية والظروف الصعبة، رفض مغادرة شمال غزة نحو الجنوب أو السفر للخارج إلا في حالة الضرورة القصوى"، مُعتبراً أنَّ مكانه الأفضل هو عمله في قطاع غزة.
وأشار إلى أنه كان يتابع محاولاته المتكررة لإدخال البضائع إلى شمال غزة رغم صعوبة ذلك، مُوضحاً أنّه قبل أسبوعين تقريبًا تمكن من إدخال عدد محدود من الشاحنات التي تضمنت أصنافًا ضرورية مثل السكر والزيت النباتي وبعض معلبات الفواكه.
وتابع: "تلك البضائع كانت في غاية الأهمية لأهالي الشمال، لكني دفعت ثمنًا باهظًا لتنسيق وتأمين دخولها"، مُبيّناً أنَّ الطلب الأكبر كان على السكر، حيث يقوم أصحاب محلات الحلويات والتجار سماسرة الحرب بشراء كميات كبيرة منه لتخزينه بسعره الحالي المنخفض (18 شيكل للكيلوغرام) في انتظار ارتفاع الأسعار بعد نفاد الكميات من السوق.
ولفت حمادة، إلى أن بعض البائعين يبيعون السكر لاحقًا بسعر يصل إلى 35 شيكل، ما يجبر السكان على شراء هذه المواد بأسعار مرتفعة.
ورغم الاتهامات التي طالت التاجر عيد عمر حمادة وغيره بخصوص غلاء الأسعار، فإن تصريحاته وشهاداته تُبرز حرصه على مساعدة سكان القطاع بما يتماشى مع الظروف الصعبة، مُؤكداً على أنه لم يستغل الأزمة ولم يسعَ لتحقيق أرباح غير مشروعة على حساب المواطنين، بل قام ببيع بضائعه بسعر الجملة المناسب للبائعين.
كما نوّه إلى أنه تحمل تكاليف باهظة لتأمين وتنسيق إدخال السلع إلى الشمال، وذلك بهدف توفير المواد الأساسية للأهالي، مُردفاً "أنا لدي شركتي الخاصة وأبيع الجملة بأسعار ملائمة للبائعين، لكني لست مسؤولاً عن الأسعار التي يبيعون بها للزبائن، على سبيل المثال أبيع السكر بـ18 شيكل، وهم يبيعونه بـ35، ولا يمكنني محاسبتهم".
وشدّد على أنه حاول الحد من جشع بعض البائعين من خلال فرض شروط على الكميات الكبيرة من السكر والزيت النباتي، حيث طلب أن تشمل عمليات الشراء الكبيرة أصنافًا أخرى لتوزيع البضائع بشكل أكثر عدالة بين التجار، بما يضمن وصول السلع إلى أكبر عدد ممكن من الزبائن.
حمادة عبَّر عن استيائه من اتهامات الاستغلال التي توجه إليه من بعض النشطاء الذين يروجون بألفاظ عدائية للمشاحنة وإحداث الفوضى ، خاصة أولئك الذين يعيشون خارج القطاع.
وقال: "لا يمكن لأحد يعيش خارج القطاع، بعيدًا عن معاناتنا اليومية، أن يطلق أحكامًا علينا دون أن يكون مطلعًا على الحقائق"، مُتابعاً: "أنا أعيش بين شعبي وأعمل بما يمليه عليّ ضميري، لم أظلم أحدًا ولن أكون أنا وقساوة الحرب على أفراد شعبي".
وأكّد على ضرورة فرض رقابة تتابع البائعين وسماسرة التجارة ومراجعتهم أولاً بأول حول قائمة الأسعار التي يبيعونها للمواطنين ومساءلتهم، مُوضحاً أنه منذ بدء الحرب، عُرض عليه عمولة مقابل أنّ يُسلم المبلغ نقداً كما هو الحال الآن في غزة؛ نظراً لشح السيولة المالية في القطاع، ورغم ذلك رفض الحصول على أي نسبة من هذا المبلغ، لأن ذلك يعتبر ربا.
واستدرك: "عيد حمادة كان وما زال يحاول بشتى الطرق منع البائعين وسماسرة التجارة من استغلال الوضع ورفع الأسعار، لكن هذه المواضيع باتت معقدة، خاصة في ظل تضارب المصالح وصعوبة السيطرة على السوق بالكامل".
إلى جانب رأي التجار، جاء صوت المواطن صابر أبو عيسى، أحد سكان شمال غزة، الذي وصف الوضع بأنه "لا يطاق"، وقال: "عندما سمعت بدخول الشاحنات توقعت أن الأسعار ستنخفض وأننا سنتمكن من شراء ما نحتاجه، لكن تفاجأت بأن الأسعار ما زالت مرتفعة بشكل جنوني".
وأضاف: "ذهبت لشراء السكر والزيت من أحد المحلات، لكن السعر كان مضاعفًا عما كنت أتوقعه. البائعون يستغلوننا ولا يراعون ظروفنا. نحن نعيش بدون دخل، ونعاني من انعدام السيولة المالية، ومع ذلك لا يتركون لنا خيارًا سوى شراء هذه المواد بأسعار مرتفعة، لأنها أساسية لحياتنا".
ورغم إدخال الشاحنات المحملة بالمواد الغذائية إلى شمال غزة، إلا أن الوضع الاقتصادي والاجتماعي في المنطقة ما زال متأزمًا، فارتفاع الأسعار وعدم قدرة السكان على شراء هذه المواد الغذائية يزيد من حدة المعاناة اليومية.
وبينما يواجه التجار اتهامات بالجشع والاستغلال، يرون أنهم بدورهم يعانون من التكاليف المرتفعة لإدخال البضائع وتأمينها ولا يربحون ببيعها سوى الفتات وفي خضم هذا النزاع، يبقى المواطن البسيط هو الضحية الأكبر، يعاني بين سندان الحرب ومطرقة الغلاء.