سأظل أتذكر قصة تاريخية مشهورة جداً من ملفات الاغتيالات في قطاع غزة، وهي قصة اغتيال، العقيد المصري البطل، مصطفى حافظ، هذا البطل المصري خريج الكلية الحربية 1940، هو أول من حصل على رتبة عقيد وهو في سن الخامسة والثلاثين من العمر.
عين الرئيس جمال عبد الناصر هذا البطل في منتصف خمسينيات القرن الماضي مسؤولاً عن حماية غزة والدفاع عنها، كلفه بتشكيل مقاومة على شكل جيش مصغر لردع إسرائيل، والقيام بعمليات مضادة داخل إسرائيل، كان ذلك بطلب من سكان غزة للتصدي للعربدة الإسرائيلية اليومية، هذه العربدة كانت تجري بقصف غزة بالمدافع الإسرائيلية بشكل مستمر، وكان الجيش الإسرائيلي يقوم بعمليات قتل عسكرية عديدة في خمسينيات القرن الماضي.
بدأ مصطفى حافظ في أواسط الخمسينيات بتشكيل جهاز الفدائيين الفلسطينيين، وقام باختيارهم وتدريبهم، ما جعله الهدف المركزي لجيش إسرائيل، لأنه كان يمثل التضامن والتلاحم النضالي بين غزة ومصر، وبخاصة بعد أن نجح فدائيو البطل مصطفى حافظ في الاستيلاء على أحدث سلاح إسرائيلي سري وهو رشاش العوزي الجديد، وكان هذا الرشاش الجديد مطلوباً للجيش المصري لكشف خصائصه، سلم مصطفى حافظ رشاش العوزي للمخابرات المصرية، هذا الاختراق الاستخباري بالإضافة إلى عمليات الفدائيين دفع بن غوريون لتكليف الفرقة العسكرية 101 بقيادة شارون لاغتيال مصطفى حافظ، وأعلنوا عن جائزة بمقدار مليون دولار لمن يساعد في كشف مكان مصطفى حافظ، حاول شارون أكثر من عامين اغتيال مصطفى حافظ ولكنه فشل، ما دفع بن غوريون إلى توبيخ شارون ونقل ملف الاغتيال إلى الذراع الاستخبارية الخارجية، الموساد ليتولى الاغتيال، وهذا ما جعلهم يبدؤون للمرة الأولى في استخدام (التفخيخ المتفجر) وكان هذا العمل جديداً على العالم كله، تمكن الموساد من تجنيد أحد الرجال المقربين من مصطفى حافظ، وهو الفدائي الفلسطيني، سليمان طلالقة، واختاروا له اسم (طلال)، وكان جهاز الموساد يعلم أن هذا الرجل وطنيٌ مخلص لمصطفى حافظ، وهو مقرب له جداً، جهزوا له طرداً مفخخاً، مكوناً من رسالة مفخخة على شكل كتاب، تنفجر عند فتحها، أعدوا له نسخة أخرى تطابقها غير مفخخة، ليوهموه أنها مجرد رسالة استخبارية عادية، وعليه أن يسلمها لقائد شرطة غزة، المناضل الفلسطيني، لطفي العكاوي الصديق الحميم لمصطفى حافظ، وادعوا كذباً أن قائد الشرطة هو عميل إسرائيلي، يملك في بيته جهاز إرسال لاسلكياً، ويجب على الطلالقة أن يسلمه الطرد بنفسه، ولكي يشعر بالأمان أحضروا له النسخة الشبيهة تماماً بالنسخة المفخخة، وقالوا له: اقرأها أولاً قبل إقفالها حتى تثق بنا، وقالوا له عند إغلاقها: لا يمكن فتحها إلا من صاحبها، وأعطوه كلمة السر المزعومة، وهي نصف ليرة ورقية، قالوا له: النصف الثاني عند لطفي العكاوي، وعندما أخذوها لإغلاقها سلموه النسخة المفخخة الثانية الشبيهة بها دون أن يعرف!
كان، نمرودي رجل الموساد يعلم أن هذا الفدائي سوف يسلم الرسالة أولاً لرئيسه، مصطفى حافظ، وبالفعل أسرع طلال إلى مصطفى حافظ في مقره السري في وسط غزة، وأسر في أذنه كل ما أبلغته المخابرات الإسرائيلية بخاصة أن صديقه رئيس الشرطة، لطفي العكاوي عميلٌ إسرائيلي يملك جهاز إرسال لاسلكياً في بيته، دُهش مصطفى حافظ من الخبر، فتح الرسالة بسرعة ليقرأها أولاً ثم يعيد إغلاقها، ثم يأمر بالقبض على لطفي العكاوي، انفجرت الرسالة في وجهه، استشهد البطل المصري مصطفى حافظ في المستشفى المعمداني، وأصيب معاونه، مصطفى هريدي بإعاقة دائمة، وفقد سليمان طلالقة بصره!
لا تنسوا أن كل تلك الأحداث جرت ليس في الألفية الثالثة، هذه العملية وقعت يوم 12 من شهر تموز العام 1956م، وللعلم فقط فإن الرئيس عبد الناصر نعى هذا القائد وبكى عليه.
من يدرس ملفات الاغتيالات في إسرائيل يصل إلى نتيجة مفادها أن هذه الصناعة هي الصناعة الاستراتيجية الحربية الأقوى في العالم كله، لأن إسرائيل ليست مثل دول العالم الأخرى، بل هي دولة فريدة، لا بد لها أن تعتمد على قوتها العسكرية وكفاءتها في عمليات الاغتيالات!
للأسف فإننا نحن ضحايا هذا الإجرام، لم نتعلم أساليب الوقاية من هذا الإجرام حتى اليوم، بل إننا سنظل نبكي ونلطم ونشق الجيوب حزناً على ضحايانا، وعلى غفلتنا وتقصيرنا، ونحن لم نتمكن حتى اليوم من بلورة صيغ مضادة، ما يجعلنا فرائس سهلة نقع في الفخ الإسرائيلي دائماً.
تذكروا أن صناعة الاغتيالات هي اليوم أكثر سهولة مما كانت عليه في السابق، بعد أن قارب البشر كلهم أن يصبحوا رقائق إلكترونية رقمية، يسهل الوصول إليهم بتكنولوجيا رخيصة وسهلة من مالكي عصر المعلوماتية، ممن أركبونا في قاطراتهم الرقمية، خدرونا، فغفونا، وحلمنا أننا نملك تلك القاطرات!.