كان لدينا جميعاً، أو أغلبنا على الأقلّ بعض الأفكار التي بيّنت هذه الحرب أنّها تحتاج إلى نقاش، وربّما إلى حوارات معمّقة، وذلك بالنظر إلى أن هذه الأفكار قد تجاوزت كونها أفكاراً في بعض جوانبها، وأصبحت في ضوء ما أفرزته من وقائع تعبر من مساحات الشكّ والتمحيص إلى مساحات الحقائق واليقين.
أولى هذه الأفكار أنّ المجتمع الإسرائيلي لا يمكنه تحمُّل أعباء الحرب الطويلة، خصوصاً أنّ هذا المجتمع كان قد «اعتاد» على حروب خاطفة، تجري عادة في أرض العدو، تماماً كما اعتاد وتربّى على أنّ دولة الاحتلال كانت تخرج من هذا النوع من الحروب إمّا منتصرة، أو ليست مهزومة، أو أنّها قادرة على تجاوز خسائرها بسرعة، وعلى ترميم ما تهدّم في بناها العسكرية، بالدعم اللامحدود من الولايات المتحدة الأميركية و»الغرب».
ما نحتاج إلى مناقشته والحوار الجادّ حوله هو هذا المجتمع في هذه الحرب لأسباب مختلفة، ومنها التحوّلات «اليمينية» العميقة التي جرت فيه على مدار ثلاثة عقود على أقلّ تقدير قد فقد إلى حد بعيد الهوامش الإنسانية، وبات هذا المجتمع منساقاً إلى درجةٍ خطرة وراء المقولات «التلمودية» التي تجسّدها في الواقع السياسي الراهن في الدولة العبرية أحزاب الائتلاف الفاشي الحاكم، أو معظمها، ناهيكم عن أنّ أحزاب ما تسمّى المعارضة تعجّ هي الأخرى بمثل هذه الأحزاب.
أقصد علينا أن نعيد النظر بقدر ما هو ضروري بالأفكار التي كانت تتكدّس لدينا عن قدرة المجتمع الإسرائيلي على تحمّل الحرب الطويلة، وعلى أعبائها، وبات من الضروري مراجعتها.
ومن هذه الزاوية بالذات فإنّ «اليمين الفاشي» المدجّج بأسلحة الأيديولوجيا القومية والدينية العنصرية المتطرّفة لم يعد قوّة للتبشير السياسي في هذا المجتمع، وإنّما تحوّل إلى قوى للحكم السياسي، ووصل إلى صلب التحكّم السياسي بعد أن عاش طويلاً على حواف هذا الحكم والتحكُّم.
لقد ساهم «طوفان الأقصى» في تأجيج هذا الواقع من زوايا مختلفة، وشعور هذا المجتمع بـ»وجودية» هذه الحرب، وفي ضوء الصدمة المدوّية لـ»الطوفان»، وما أحدثه من ذهول في الحالة النفسية له، خاصة بعد أن «اطمأنّ» إلى تفوّقه، وتفوّق جيشه، وإلى الخنوع العربي لأطروحاته وإستراتيجياته، وإلى الاستكانة الفلسطينية «الظاهرة» لديه، وإلى تبنّي «الغرب» لسياساته، وتغافل هذا «الغرب» عن كلّ انتهاكاته وممارساته.
واستطاع «اليمين الفاشي» أن يعيد الاستثمار في كلّ هذا الواقع على جبهتي الثأر والانتقام والإجرام والتوحُّش من جهة، وعلى الذهاب بعيداً في خطط حسم الصراع والإمعان في «إزالة» كلّ تهديد قائم ومحتمل، مهما كلّف الأمر، ومهما كانت المدّة التي ستستغرقها الحرب، ومهما كانت الأعباء التي ستترتّب عليها من جهةٍ أخرى.
وبما أنّ الطابع الوجودي للحرب ما زال قائماً، وبما أنّ عدم تحقيق أهداف هذه الحرب سيعني بالضرورة تعمّق المحتوى الوجودي لها، وبما أنّ خوض هذه الحرب حتى منتصفها فقط سيعني خسارتها، فإنّ درجة التحمُّل، ومدّة تحمُّل هذه الحرب ستبقى قائمة على ما يبدو إلى حين زيادة منسوب «الأمل» بربحها، أو إلى حين وصول المجتمع الإسرائيلي إلى درجة اليأس من استمرارها، وإلى ذلك الحين سيبدو قادراً على تحمُّل الحرب في الزمن والخسائر والتبعات.
على مستوى ثانٍ فإنّ علينا على ما يبدو أن نُمعن النظر في الصعود الصاروخي لمنسوب الحقد والثأر والانتقام والتوحُّش على جانبي عملية الصراع، وفي تحوُّل «الكراهية» إلى الظاهرة السائدة الأولى بعد كل هذا الإجرام الصهيوني، ما يحوّل مستقبل «التعايش» إلى طوباوية سياسية متخيّلة أكثر منه حالة ممكنة وواقعية، وما يجعل من بعض مراحل التعايش «المفروضة» بحكم موازين القوى هي لحظات، أو فترات، أو حتى مراحل «عابرة»، ولها مضامين المؤقّت، و»الانتظاري» المتربّص والكامن والانتقالي على كلّ حال.
هذا من جهة، سيؤدّي موضوعياً إلى تحويل كلّ حلّ ما دون الحصول على الحقوق الوطنية الكاملة، وغير القابلة للتصرف إلى حلّ مأزوم، وإلى «ارتداد وطني»، وإلى أقلّ مما يمكن «التساكن» معه، أو قبوله.
وعلى الجانب الآخر فإنّ الوصول إلى هذه المرحلة، مهما كانت عابرة ومؤقّتة، ومهما نظر إليها المجتمع الإسرائيلي باعتبارها «الشرّ» الذي لا بدّ منه، فإنّ فقد الأمل بالانقلاب عليها سيعني رفض هذا التساكن، والإعراض عن هذا التعايش، وهو الأمر الذي سيؤدّي بالضرورة إلى مغادرة ونزوح مئات آلاف وجلّهم من الليبراليين، إن لم نقل ملايين اليهود الإسرائيليين عن جغرافية دولة الاحتلال قبل دُنوّ هذه المرحلة، وقبل فرض هذا التعايش عند درجة معيّنة من سياق هذا الصراع.
أقصد أنّ مقولة «التعايش بين الشعبين»، ومقولة «الدولة الواحدة» بينهما إذا تعذّر حلّ الدولة الخاصة بكلّ شعب منهما لم تعودا قادرتين على الإجابة عن أسئلة مستقبل الصراع.
والحقيقة أنّ ممارسة «حق العودة» وحده كفيل بإعادة تفجير هذا الصراع، لأنّ ميزان القوى الذي سيفرض هذا الحقّ هو نفسه الذي يحسم الصراع كلّه لصالح المشروع التحرّري للشعب الفلسطيني، ما يضفي على مستقبل هذا الصراع أبعاداً جديدة جديرة بالتأمّل والبحث والتفكير، وهي مسائل تستحقّ النقاش والحوار المسؤول. على مستوى ثالث فقد تورّطت دولة الاحتلال في ضوء وقائع هذه الحرب في، وعلى درجة غير مسبوقة من «الاعتمادية» الكاملة على الولايات المتحدة، وعلى اعتماديّة ما زالت كبيرة ومؤثّرة على «الغرب»، وعلى مراهنات كانت تراها مستقرّة وثابتة في شبكة علاقاتها الإقليمية «لتكتشف» الآن أنّ هذه الاعتمادية، وهذا الارتهان، وهذه المراهنات قابلة عند درجة أو أخرى من صراع المصالح في المستويات الدولية والإقليمية للتراجعات، بتفاوت هنا، وآخر هناك.
يبدو أنّ الإقليم لم يعد طيّعاً كما كان، ويبدو أن «الغرب» أصبح أكثر حذراً في الالتحاق التامّ، والانسياق الكامل، كما يبدو أنّ الدور والوظيفة الإقليمية لدولة الاحتلال آخذة في التراجع، وهو الأمر الذي يُنذر بتغيّرات متدرّجة في مستويات الدعم والرّهانات والمراهنات، وفي فقد المجتمع الإسرائيلي بالرجوع إلى قبل هذه المرحلة، وقبل هذه الحرب، فقد حسمت الأخيرة أن عودة الأمن والأمان، وعودة الرفاه والاطمئنان، وعودة الثقة العالمية والإقليمية بهذه الدولة باتت من الأمور الصعبة، وربما المستحيلة، وهو ما يجعل دولة الاحتلال تسير قدماً في طريق الضعف والتراجع حتى ولو أنّها لم تُهزم عسكرياً، لأنّه وبما أصابها حتى الآن، أصبحت تسير في هذا الطريق دون غيره.