مؤذن خانيونس

image_processing20250803-1802975-8gk8fu.jpg
حجم الخط

بقلم عيسى قراقع

في خانيونس، المدينة الجريحة في جنوب غزة، ظهر المؤذّن سليم عصفور— رجلٌ مسن، نحيل كأنّ العمر أنهكه والجوع أنهى ما تبقّى منه. في صورة اجتاحت القلوب قبل الشاشات، بدا جسده كأنّه من زمنٍ آخر: لا عضلات، لا لحم، فقط جلد يكسو عظمًا بارزًا، وهيئة إنسان ما بين الحياة والموت، ينهض ليؤذّن لا بصوتٍ، بل بحضورٍ يشبه البكاء الصامت.

سليم عصفور لم يكن مجرد مؤذّن في مسجد الصحابي بخانيونس. كان رمزًا لصوت المدينة، لصوت من تبقّى. لكنه اليوم، حين يرفع الأذان، لا أحد يُجيبه. لا أحد يأتي إلى الصلاة.

المساجد هُدمت. الماء انقطع، الناس هجرت، او استشهدت، والأذان صار نداء في الفراغ، لا منابر للصلاة في غزة، لا محراب، لا ماء، لا مصلين.

ماذا يؤذّن المؤذّن؟ ولمن؟

يقف سليم، بجسده المرتعش، وبعينيه الزائغتين، يهمس بدل أن يهتف: الله أكبر، لكن صوته لا يصعد، والسماء مقفلة لا ترد، السماء مشغولة بالطائرات الحربية الصهيونية واصطياد المجوعين في مراكز المساعدات، السماء مزدحمة بدخان الأجساد المتطايرة كأنها عمياء. 

لم يعد المؤذن سليم عصفور ينادي الأحياء، بل كأنه يؤذّن للأموات، يقول لهم:

"قوموا يا من في القبور، فالصلاة حان وقتها." ويردد ما قاله الشاعر معين بسيسو ذات يوم: ايها الموتى افيقوا ان عهد الموت زال، يعتقد  أن من في القبور قد يستجيبوا، بعدما خذل الأحياء نداء الحياة، وان من في القبور قد يشعلون ثورة تحت التراب.

مؤذن خانيونس لا ينادي إلى السجود فقط، بل إلى الاستفاقة من غيبوبة العالم. والاستماع إلى صيحات المنسيين تحت الانقاض، صوت يعلو من تحت الركام،لا ليذكر بالصلاة، بل ليقول للعالم: ما زلنا هنا، نعرف مواقيتنا، رغم أن الوقت كله صار مقبرة، وان الأذان في غزة لا يرفع من مئذنة، بل من جرح، ومن شعب يقاوم محو الزمن والذاكرة.

لقد تحوّل الأذان في غزة من طقس تعبدي، إلى صرخة وجودية، وإلى احتجاج على صمت القدر، أو تأخّره، ففي فلسفة الفناء، يفترض أن ينطفئ الصوت بعد الموت، لكن في غزة الأذان يسبق القيامة، يخرج من المساجد المهدمة كصرخة لم تحذف من كتاب، فلا أحد أكبر من شعب يصلي تحت النار.

"يا رب… متى تتدخل؟"

هكذا تصرخ عظام سليم.

ليس لسانه فقط، بل جسده كله، يسأل الله:

أين الرحمة؟

أين العدل؟

أين النصر الذي وُعدنا به في سورة النور والحديد والأنفال؟

 

بات المؤذّن، سليم عصفور، حين يرفع صوته بالأذان، كأنّه يرفعه في صحراء من الغياب،

كأنّه يقيم صلاة الغائب على حيّ لا يصلي، وعلى ميت لا يُدفن.

 

الصلاة لم تُلغَ، لكنها صارت صلاةً بلا مصلّين.

كأنّ لا أحد خلفه. لا صفوف. لا ركوع. لا دعاء.

وكأنّ الركعة الأولى تبدأ وتنتهي بلا أحد،

وكأنّ الآيات الكريمة تُتلى في الفراغ، ترتدّ على جدران مدمّرة، وتضيع في هواء يملأه الغبار .

 

الكل صار أشلاء.

الأجساد بلا أطراف.

العيون بلا جفون.

والقلوب… بلا رحمة.

المحراب فارغ.

السجادة محترقة.

والمسجد ليس إلا حجرًا باكيًا على من بناه ومن صلّى فيه.

المؤذّن يؤذّن، لا ليُصلي الناس، بل ليُعلن أن الأرض ما زالت تذكر الله… حتى لو نسيها البشر.

في غزة… صلوات بأسماء الجحيم، لم تعرفها كتب الفقه، ولا رواها الائمة  

صارت الصلاة ليست خمسًا، بل ألفًا،

لكن لا تُقام في المساجد، بل في الساحات المنهارة، وتحت الأنقاض، وبين الجثث المبعثرة ، وفي عيون الأطفال.

في غزة،

أصبحت هناك "صلاة الإبادة"… تؤدَّى كلما دفن عشرون شهيدًا دفعةً واحدة.

وصلاة الجوع… تقام على معدة خاوية، وبفمٍ لا يعرف طعم الخبز ولون الحليب،

وصلاة التشرد… حين يُطرد الإنسان من بيته، ويصلي تحت شجرة، أو في خيمة، أو على كومة تراب، او مربوطا بسلاسل من حديد،

وصلاة الركام… حين يُستبدل السجود على سجادة، بالسجود فوق أنقاض منزل وذكريات،

وصلاة الخوف… حين ترتجف في الركوع، لا من خشية الله فقط، بل من صوت القنابل وهدير الطائرات،

وصلاة السجن في المسالخ وفي أقبية التعذيب والظلام، وفي النفي الإجباري داخل الوطن،

وصلاة الصراخ… حيث الآهات أصدق من التهليل، والدموع أطهر من التلاوة،

وصلاة المدافع والصواريخ التي تبدأ بتكبير وتُختم بانفجار،

وصلاة المحو والنسيان عندما تفتقد جميع العائلة،

كلّها صلوات تُقام بلا طمأنينة، بلا خشوع، بلا وضوء أحيانًا،

لكنّها صلوات خالصة، مضرّجة بالدم، مرفوعة من أعماق الظلم،

صلوات من نوع آخر… صلوات تشهد أن غزة ما زالت تؤمن، حتى وهي تُحرق.

الله أكبر… على من؟

لم تعد "الله أكبر" في خانيونس مجرد نداء للصلاة، بل صارت صرخة قادمة من القهر:

الله أكبر

على المعتدين الذين استباحوا البيوت والقلوب.

الله أكبر

على الصامتين الذين بلعوا ألسنتهم، ودفنوا ضمائرهم.

الله أكبر

على المتخاذلين الذين خانوا القضية، وأداروا وجوههم نحو مصالحهم.

الله أكبر

على المتفرجين من خلف الشاشات، يعدّون الشهداء كما يعدّون الوقت، ولا يرتجف فيهم عرقٌ ولا إنسانية.

الله أكبر

على تجّار الحروب الذين يفاوضون فوق أشلاء الأطفال، ويقايضون الألم بالمال، وقد حولوا الإبادة إلى ربا وتجارة.

الله أكبر

على المرتزقة الذين يبيعون دمنا في مؤتمرات باردة، ثم يخرجون ببيانات سخيفة عن "التهدئة".

الله أكبر

على من ينتظر أن يدخل غزة على ظهر الدبابة، ليقيم "دولةً للميتين"، فوق جماجمنا وخرائب مساجدنا وكنائسنا، دولة الرفاهية،

الله أكبر على من يتحكم بسعراتنا الحرارية ويدفعنا لنأكل أوراق الشجر والأعلاف والقمامة.

الله أكبر على من يلقي علينا صناديق الغذاء من الجو لتهرسنا في حظائرنا المحاصرة.

الله أكبر على من يهندس جوعنا، ليصبح طلب الطعام ذلا وتوسلا على حساب الكرامة.

مؤذن خانيونس يكبر وينادي على عمار بن ياسر رمز الصبر تحت التعذيب، والولاء للحق رغم التهشيم، وينادي على أبي ذر الغفاري: ارجع من صمتك الطويل، واحمل جوع غزة في كفيك ثورة حق وصلاة، وينادي على المسيح حين يصير الألم وسيلة لفهم الإله، وينادي على إبراهيم الخليل، التضحية بابنه غزة، في وجه الكافرين والطغاة.

 

 مازال  مؤذن خانيونس يدعو ويكبر:

اللهم اجعل تكبيرنا سيفًا، وصبرنا دعاءً لا يُرد.

اللهم، إن لم تتدخّل بعد، فاجعل في صبرنا علامة، وفي أذاننا نارًا توقظ الغافلين.

اللهم، لا تتركنا وحدنا في هذا البلاء.

فالمآذن تُهدم، والأطفال يُدفنون، والمؤذّنون يُؤذّنون للقبور.

"الله أكبر" وحدها تظلّ واقفة، شاهدة، صامدة، لا تموت.