في خيمة متواضعة محاطة بأكوام النفايات وروائح المياه الراكدة، تجلس سهير العربيد وهي تحاول تهدئة طفلتها الرضيعة التي أنهكها الإسهال والحمّى.
ليست معاناة سهير حالة فردية بل صورة مكثفة لأزمة صحية تلتهم مخيمات النزوح في غزة، حيث تحوّل الماء الملوّث وانهيار شبكات الصرف الصحي إلى تهديد يومي يعصف بحياة آلاف الأطفال والنساء.
فمنذ دمر الاحتلال البنية التحتية للمياه خلال حربه على غزة بعد السابع من أكتوبر، باتت العائلات تعتمد على مصادر بديلة: خزّانات بلا تعقيم، صهاريج مجهولة المصدر، ومياه آبار مكشوفة تختلط بمياه الصرف. ومع كل جرعة يشربها طفل، يتسلّل المرض دون استئذان.
تقول سهير وهي تضم طفلتها جوري التي لم تكمل عامها الأول: “لم يعد لدي خيار. المياه التي تصلنا لها لون ورائحة غريبة، لكنني مجبرة على استخدامها. طفلة ترضع، وأربعة أطفال بحاجة لماء… ماذا أفعل؟”.
لم تكن جوري أول من يمرض، لكنها الأكثر هشاشة. فمع النقص الشديد في الحفاضات وارتفاع الحرارة، أصيبت بالتهابات جلدية ثم إسهال حاد أدخلها في حالة جفاف خطير. وتروي الأم: “كنت أرى جسدها يصفرّ أمامي. لم أجد دواءً ولا ماءً نظيفًا لغسلها. كأنك تعيش في حفرة مليئة بالقاذورات، وكل يوم تنتظر أن يصيب المرض واحدًا جديدًا من أطفالك”.
ما تعيشه سهير يتكرر في كل خيمة تقريبًا، حيث تشير تقديرات طبية محلية إلى أن معظم الإصابات المسجلة خلال الشهور الأخيرة مرتبطة مباشرة بالمياه الملوثة أو انعدام النظافة الأساسية.
وتؤكد شهادات الكثير من الأمهات أنّ الأطفال يعانون من نوبات متتالية من الإسهال، جفاف الجلد، الطفح، آلام البطن، والقيء، دون قدرة على الحصول على سوائل بديلة أو أملاح معالجة، إذ نفدت معظم المستلزمات الطبية من العيادات الميدانية واستنزف الحصار الإسرائيلي ما تبقى من طواقم ومنشآت علاجية.
يشرح صوت الأطفال مأساة العيش في خيمة ملوّثة بالماء غير الصالح للاستخدام. يقول محمد، ابن سهير البالغ من العمر عشرة أعوام، وهو يمسك طرف ثوبه بتوتر واضح كمن يروي سراً ثقيلاً: “إحنا لما بنصحى الصبح بنلاقي الميّة لونها غامق… ماما بتحطّها بجرّة كبيرة وتقول لازم نستخدمها، بس أنا بخاف أشرب. مرّة شربت منها وضلّيت أتقيّأ طول الليل. بطني كان بيوجعني لدرجة حسّيت إني راح أموت. صرت أغسل وجهي شويّة بس من الميّة اللي بالقنّينة لأنها أنضف، بس مرات ما بيضلش غير ميّة الخزّان… ريحتها زي ريحة المجاري. ولما نستحم منها بطلع على جسمي نقط حمرا وبحكّ كتير”. ثم ينظر نحو إخوته الصغار قبل أن يهمس بجملة تختصر عالم المخيم كله: “إحنا بنشرب ميّة… بس الميّة بتأذّينا كل يوم”.
وجاء تحذير لافت للدكتور صبحي سكيك، المدير العام لمستشفى الصداقة التركي الفلسطيني: “نحن نواجه اليوم ما يشبه الانفجار الوبائي. الإسهالات، الجفاف، والتهابات الكبد تنتشر بمعدل غير مسبوق، ومعظم الحالات التي تصلنا مرتبطة مباشرة بتلوث المياه وعدم وجود مرافق صحية آمنة. الأطفال هم أول الضحايا، ولا نملك الإمكانات لمعالجتهم أو حتى لوقف مصادر العدوى”.
هذا التصريح يختصر أحد جوانب الكارثة الصحية، فليس هناك مستشفيات تعمل بكفاءة، ولا مختبرات لتحليل المياه، ولا منظومة صحية قادرة على الاستجابة. حتى مراكز الإيواء التي يفترض أن تكون أماكن حماية تحوّلت إلى بؤر للعدوى، إذ تختلط المياه الرمادية بمخلفات الطعام، وتفيض المراحيض المشتركة على أرضيات الغرف، بينما يحاول السكان تنظيفها بما تبقّى لديهم من الماء نفسه الذي تسبب في الأمراض.
في الميدان، يُرجع أطباء الطوارئ في العيادات المتنقلة أسباب تفاقم الوضع إلى ثلاثة عوامل رئيسية: اعتماد المخيمات على صهاريج غير خاضعة للرقابة، تخزين المياه في خزانات مكشوفة تحت الشمس، وغياب أي وسيلة لتعقيمها لكن هذه الأسباب قد تكون مرتبطة بظروف عادية، أما في غزة فالوضع مختلف بالكامل، الحرب تعمّدت تدمير البنية التحتية للمياه، والحصار يمنع إدخال مواد التعقيم أو صيانة الشبكات، ما يجعل السكان عاجزين تمامًا عن أي معالجة أو رقابة. ليست المشكلة في سلوك الناس بل في الظروف المفروضة عليهم بالقوة.
وتؤكد الطواقم الطبية أن الأطفال دون سن الخامسة هم الأكثر تضررًا، وأن بعضهم يصل إلى العيادات وقد فقد 10٪ من وزنه بسبب الجفاف المتكرر.
وعلى طرف آخر من الصورة، تواجه النساء تحديًا إضافيًا يتمثل في استخدام المياه غير المأمونة للنظافة الشخصية، ما يؤدي إلى ارتفاع التهابات الجلد والمسالك البولية، وخاصة بين الحوامل والمرضعات. تقول سهير: “جسدي يحترق كلما استحممت. الماء مالح ورائحته نتنة، لكن لا خيار آخر. صرنا نشعر أن الماء عدوّنا، وليس وسيلة للحياة”.
وفي ظل هذا الواقع، برزت مخاوف حقوقية تتعلق بانعدام الوصول إلى حقّ أساسي معترف به دوليًا: الحق في المياه الآمنة. وتؤكد رندا قدادة، الباحثة القانونية أن "ما يجري ليس ظرفًا عابرًا بل انتهاك مباشر لحق الإنسان في الماء، وهو حق تكفله المواثيق الدولية بما فيها العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الذي يفرض على الدول توفير الحد الأدنى من الكمية والنوعية التي تضمن الكرامة والأمان الصحي. ما يحدث في مخيمات النزوح اليوم هو ترك المدنيين عرضة لأوبئة يمكن تفاديها لو توفرت المواد الأساسية والبنية الصحية الأولية، وهذا الإهمال ليس نتيجة ظرف طارئ بل نتيجة سياسات ممنهجة.”
لا تخفي سهير خوفها من المستقبل، وهي تنظر إلى أطفالها الأربعة ينامون قرب خزان ماء بلا غطاء: “لا أريد أن أفقد طفلاً آخر بسبب جرعة ماء، الحرب سرقت مني اثنين أحدهما قد استشهد في حضني حينما اُستهدف مركز الإيواء الذي نزحنا إليه بينما أصبت أنا، أما طفلي الأخر فقد استشهد عندما ذهب إلى السوف ليجلب لي بعض الحاجيات".
كلماتها تكشف حجم المأساة التي تعيشها العائلات، فالمأساة الأولى هي الموت والإبادة والفقد، ثم تأتي كل المآسي الأخرى بعدها؛ شحّ الموارد، تفتت المنظومة الصحية، وفوضى المياه الملوثة التي تحاصر الجميع.
ومع غياب حلول عاجلة، تظل حياة آلاف الأطفال معلّقة بين قطرة ماء قد تروي عطشهم وقطرة أخرى قد تقطع مسار حياتهم. هكذا تتحول الخيام الممتدة من شمال القطاع إلى جنوبه إلى رقعة موبوءة يتجول فيها الوباء بلا قيود، فيما يبقى السؤال معلّقًا: كيف يمكن للناس أن ينجوا من مرض مصدره الشيء ذاته الذي يُفترض أن يمنح الحياة.
