في ظل المخاوف المتزايدة من أن الاقتصاد المتهاوي والاضطرابات المتزايدة في غزة سيؤديان الى تجدد المواجهة بين اسرائيل و"حماس"، أعرب مسؤولون في الجيش الاسرائيلي، مؤخراً، عن دعمهم لخطة بناء ميناء بحري في قطاع غزة، على أن يستند المشروع إلى ترتيبات أمنية مناسبة. حتى الآن فإن حكومة اسرائيل، فيما عدا الوزيرين يسرائيل كاتس ويوآف جالنت، لم تفصح علنا عن موقف رسمي فيما يتعلق بهذا الخصوص. ويبدو أن الأمر ينبع من اعتبارات تتعلق بمصالح لاعبين آخرين في المنطقة، بالاضافة الى المسائل الأمنية. ويتناول هذا المقال عدداً من الاعتبارات، التي من المناسب ان تطرح لنقاش الموضوع. المشكلة: في اعقاب وقف إطلاق النار مع انتهاء عملية "الجرف الصامد" كان من المقرر البدء بمفاوضات غير مباشرة بين إسرائيل و"حماس" بوساطة السلطة الفلسطينية، تتناول، من بين الأمور الاخرى، موضوع الميناء البحري في غزة. وتهدف "حماس" من وراء مطالبتها بإقامة ميناء بحري إلى تحقيق ثلاثة اهداف. الاول – ميناء فلسطيني مستقل في غزة يمكنه تزويد الفلسطينيين بما يطمحون إليه: حرية حركة البضائع والاشخاص، الى جانب الشعور بالاستقلال وتقرير المصير. الثاني – يدور الحديث عن إنجاز، يفسر على أنه نصر مهم لـ"حماس" ويرفع من مكانتها على الساحة الفلسطينية الداخلية والساحة الإقليمية. واخيرا – كون معظم المليارات التي تم الوعد بها لاعادة إعمار غزة لم يصل منها شيء أبدا لها، فإن الميناء بإمكانه ان يحفز اقتصاد القطاع، والاستثمارات، وان يقلص نسبة البطالة فيه، التي تعتبر الأعلى في العالم. يوجد لاسرائيل مصلحة قوية بالتوصل الى اتفاق لوقف نار طويل الامد مع "حماس"، ولذا فهي ترى في تطوير غزة موضوعا ذا اهمية استراتيجية. يشكل الوضع الانساني في غزة، بالإضافة إلى التحريض ضد إسرائيل، قنبلة موقوتة، موجهة ضد اسرائيل. وبالاضافة الى ذلك، فإن الجهات الأمنية الاسرائيلية تفهم ان ميناء فلسطينيا في غزة بدون ترتيبات امنية سليمة سوف يخلق تهديدا امنيا كبيرا على اسرائيل. فميناء كهذا سيتيح لـ "حماس" زيادة مخزونها من الاسلحة، بما في ذلك الصواريخ ذات المدى البعيد والمتوسط، وانظمة دفاع جوي وصواريخ مضادة للدبابات، وسيتحول الى مسار دخول وخروج لرجالات "حماس" وباقي التنظيمات "الارهابية". على خلفية هذه الاعتبارات يجب ان ندرس مجددا المصلحة من وراء بناء ميناء بحري في غزة. الخلفية: تمت مناقشة فكرة إقامة ميناء في غزة مع بداية عملية اوسلو، وتم دمجها في "إعلان المبادئ لترتيبات حكم ذاتي مؤقت" ("اتفاق اوسلو")، والذي تم التوقيع عليه بين اسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية في العام 1993. وبعد ذلك بثمانية اشهر، أضاف فكرة "اتفاق اريحا- غزة اولا" وفصلها: حيث تم تحديد خطة لاقامة الميناء، على ان تتم مناقشة موقعه، وباقي المواضيع المتعلقة به والمرتبطة بمصالح الاطراف لاحقا، في إطار مفاوضات اضافية ووفقا للترتيبات الأمنية الضرورية – وخاصة الترتيبات المرتبطة بالمعابر الدولية، التي ستظل تحت السيطرة الاسرائيلية. وكان الاتفاق المرحلي بين اسرائيل والفلسطينيين، والموقع في العام 1995، قد صادق على هذه الالتزامات السابقة. ومنذ البداية، فقد تحفظت المؤسسة الامنية في اسرائيل جدا على بناء ميناء فلسطيني في غزة، خوفا من ان يصبح هذا الميناء ممرا اضافيا لادخال الاسلحة و"المخربين". فوفقا لوجهة النظر الاسرائيلية فإن الجيش الاسرائيلي فقط هو وحده القادر على ضمان الفحص الفاعل للسفن والارساليات الداخلة الى الميناء. وبناء عليه، وعلى الرغم من ان عقود بناء الميناء (الذي خطط له ليكون ميناء السلطة الفلسطينية برقاية اسرائيلية) تم التوقيع عليها في العام 1994، الا ان استمرار الخلافات حول الترتيبات الامنية والتشغيل حالت دون بنائه عملياً. ولاحقا، تم إعادة المصادقة على خطة إقامة ميناء غزة في مذكرة شرم الشيخ في العام (1999). وكان من المقرر ان تبدأ عملية البناء فوراً، الى جانب اقامة اجهزة الامن ورقابة الجمارك للاشخاص والبضائع وتخصيص منطقة لتكون مخصصة للرقابة والتدقيق، وعمليا بدأت الاعمال في صيف العام 2000 وكان من المقرر ان تنتهي خلال سنتين، ولكن اسرائيل اوقفت عملية البناء بعد ذلك بوقت قصير، ولاحقا، في زمن الانتفاضة الثانية (انتفاضة الاقصى)، تم قصف الموقع وتدميره. وأوقفت الدول المانحة تمويل المشروعـ، وتوقف العمل به كليا. على الرغم من ان اسرائيل خرجت من غزة تماما في صيف العام 2005، قبل اكثر من عقد، الا ان جهات رئيسية في المجتمع الدولي ما زالت تتعامل مع قطاع غزة كمنطقة موجودة تحت المسؤولية الاسرائيلية. فالحصار البحري الذي فرضته اسرائيل على قطاع غزة لاسباب امنية مستمر بالتأثير بصورة سلبية على صورة الدولة في العالم، من خلال تجاهل حقيقة أن اسرائيل ملتزمة بتعهداتها الانسانية للسكان. الوضع الحالي في غزة ما زال يشكل مشكلة اسرائيلية، وهو يعتبر ايضا ذا إشكالية بأعين المجتمع الدولي. ماذا الآن؟ بدائل مادية: هل ستشارك إسرائيل في مفاوضات جدية فيما يتعلق ببناء ميناء بحري في غزة؟ إذا ردت الحكومة بالايجاب، سيكون عليها دراسة بديلين اثنين: الاول، السماح ببناء ميناء بحري في مدينة غزة نفسها، سواء على الشاطئ او داخل البحر، والامكانية الثانية هي بناء ميناء لصالح غزة، ولكن ليس داخل غزة، على سبيل المثال في العريش على الأراضي المصرية، او في اسدود، مع ارصفة منفصلة للتجارة المتوجهة الى غزة. "حماس": في حال تنفيذ البديل الاول، فإن "حماس" ستسوق ذلك كنصر سياسي، فميناء بحري في غزة بإدارة فلسطينية سوف يكون الرد على مطالبة "حماس" بالاستقلال. وفي مثل هذه الحالة، تنشأ المسألة الرئيسية، كيف يستجيب مشروع كهذا للمطالب الامنية لاسرائيل. وبدون علاقة بالسؤال هل ستوافق "حماس" على رقابة اسرائيلية من اي نوع على الميناء؟ من المنطقي ان اسرائيل لن تخاطر بإرسال قوى بشرية من طرفها الى غزة لكي تفحص البضائع والاشخاص القادمين الى الميناء من البحر المتوسط. وبالاضافة الى ذلك، فإنه في حال مراقبة اسرائيل او طرف ثالث للميناء، فإن ذلك سوف يصطدم مع تطلع "حماس" لحرية الحركة، الاستقلالية، واستعراض الانجاز السياسي. يبدو ان ممرا إضافيا يعمل وفق نظام معبر كرم ابو سالم، فيما عدا كونه في البحر، لن يكون كافيا لـ"حماس". تنفيذ البديل الثاني، بناء ميناء خارج القطاع، سوف يؤدي ايضا إلى نتيجة مماثلة. اعتبارات اقليمية: من شبه المؤكد أن أحد الاسباب الرئيسية كون القيادة السياسية في اسرائيل لا تدعم علنا خطة بناء الميناء البحري هي المعارضة المصرية. والى حد معين، وقد يكون اقل، فإن معارضة السلطة الفلسطينية لبناء ميناء في غزة قد يشكل اعتباراً اخر. فليس هناك مصلحة لاسرائيل بإغضاب مصر، التي تنسق معها فيما يتعلق بالتطورات الاقليمية، ويرى الطرفان في "حماس" وتركيا عدوين وتعارضان تعزيز قوة "حماس" وخطة تركيا لاعادة إعمار القطاع. كما ان السلطة الفلسطينية غير راضية عن الفكرة، وتخشى ان تحظى "حماس" يدعم اضافي بفضل تحقيق الانجاز السياسي الكبير، ببناء ميناء بحري في غزة. قرار معقد: من هذه الاقوال يتبين ان النقاش حول الميناء البحري في غزة من المناسب ان يدار على ضوء ثلاث اعتبارات: اولا - وقبل كل شئ، الاقتراحات لبناء ميناء يتوجب ان تعطي ردا لحاجة "حماس" والسكان في غزة الملحة لتدفق البضائع وتسهيل حركة الاشخاص من والى قطاع غزة. ومع ذلك، فإذا تحول الميناء في آخر المطاف الى ممر اضافي يعتبر بأعين الفلسطينيين كرمز للاحتلال الاسرائيلي، وان ذلك لن يخلق تغييرا حقيقا على الواقع. ومقابل ذلك يجب ان يتم الفحص من الجانب الاسرائيلي كيف يمكن إقامة ميناء مع ترتيبات امنية مناسبة، بدون أن تربح "حماس" من ذلك سياسيا بصورة كبيرة. من هنا ينبع الاعتبار الثاني. على الميناء ان يعطي ردودا للمخاوف الامنية الاسرائيلية والمصرية. فإذا تولى الرقابة عليه طرف ثالث، قإنه يتوجب عليه ان يتزود بتكنولوجيا ذات صلة، وبصلاحيات، تتيح له منع تهريب السلاح والمواد والمعدات ذات الاستخدام المزدوج، بالاضافة الى دخول وخروج "المخربين". ولكن تجدر الاشارة الى انه بدون تفتيش مادي، حتى في مواقع داخل القطاع والتي يتم فيها استخدام مواد البناء والمواد مزدوجة الاستخدام الاخرى، فإن كل ترتيب سوف يتيح لـ "حماس" استغلال البضائع لاهداف عسكرية و"ارهابية"، وفي بناء انفاق "الارهاب". ثالثا – على بناء الميناء ان يندمج بمدى معين من التفاهم السياسي بين عناصر المنطقة المشاركين، لكي يؤدي الى فترة طويلة من وقف النار، فلا اسرائيل ولا "حماس" معنيتان بجولة اضافية من المواجهة في الزمن القريب. ويجب ان يتم ترسية الاتفاق حول إقامة ميناء من خلال الاتفاق على وقف النار الذي تم الاتفاق عليه في العام 2014، عند انتهاء عملية "الجرف الصامد"، وبالاتفاق الضمني آنذاك على فتح مفاوضات غير مباشرة بين إسرائيل و"حماس".
عن "مباط عال"