عن حالات الانقسام والتفتت فــي المجتمــع الفلسـطيـني

عبد الغني سلامة
حجم الخط

الانقسام السياسي بين شطري الوطن، ليس هو الشكل الوحيد من أشكال الانقسامات داخل المجتمع الفلسطيني؛ فأي متتبع للوضع الفلسطيني بإمكانه تشخيص حالات عديدة، تعبّر عن أشكال مختلفة من الانقسامات والتصنيفات.

وهذه التصنيفات – وأغلبها ذو بعد اجتماعي – منها ما هو قديم قِدم المجتمع الفلسطيني، ومنها ما هو جديد وطارئ، ومنها ما هو خاص بالمجتمع الفلسطيني، ومنها ما هو طبيعي ويعاني منه أغلب المجتمعات الإنسانية.

في المجتمع الفلسطيني، لكل فرد أو فئة نصيبٌ من الانقسام، وتصنيف ثابت وآخر متغير، وسيلٌ من التهم الجاهزة والمتبادَلة؛ فمثلا: هناك تفرقة بين فلسطينيي الداخل والخارج؛ من هم في الخارج يعتبرون أهل الداخل منغلقين اجتماعيا، وأهل الداخل يعتبرون من هم في الخارج مزاودين. في الخارج أيضا يتكتل الغزاويون والضفاويون كلٌ على حدة، وينظر أهل الضفة وغزة إلى أهلنا داخل القدس أو الخط الأخضر نظرة ريبة وشك، ويرون أنهم يأتون لمدن الضفة فقط للتسوق لأن الأسعار فيها أقل، ويقولون إن تمسكهم بهوية القدس لدواعي المصلحة فقط، بينما يتعالى بعض أهل القدس على أهل الضفة، وعلى المستوى العملي وبطريقة خفية، يرفض الطرفان أهلَ غزة.

فيما يحلو للبعض في غزة استعمال عبارة الشعب الغزي، والمواطن الغزي. ثم نجد التفرقة بين الشمال والجنوب. ثم نجد التصنيف بين الفلاح والمدني، وهو من أقدم التصنيفات، وكان من بين أسباب فشل ثورة الـ 36. وعلى مستوى القرى سنجد التهم الجاهزة. وهناك من يمنح لكل قرية صفات محددة وسمات ثابتة، وكأنَّ جميع سكانها من طينة واحدة. وفي داخل القرية (وأيضا في المدن) سنجد التفرقة بين العشائر والحمايل، ثم هناك التفرقة البغيضة ضد أهل المخيمات. وهناك نظرة استعلاء ضد البدو والفئات المسحوقة، وعند قدوم السلطة دخل تصنيف جديد، حيث صار التمييز بين المواطن والعائد. وحتى داخل المجتمع المسيحي هناك تفرقة بين الطوائف (وهي امتداد لمشكلة عالمية).

وهناك شبه رفض من الكل للطائفة الدرزية، وتشكيك بوطنيتهم، علما أنها تضم خيرة المناضلين، وأبرزهم الشاعر الكبير سميح القاسم، ولعل أخطر هذه التصنيفات هو نظرة الشك المبطن بين المسلمين والمسيحيين. على المستوى السياسي والثقافي هنالك الانقسامات الواضحة وحالة الاستقطاب الحادة بين الفصائل والتيارات؛ فمثلا هناك حربٌ ضروس بين العلمانيين والمتدينين، وبين اليسار واليمين، وبين التنظيمات السياسية وفصائل العمل الوطني نفسها. من المفترض أن تكون هذه الخلافات طبيعية ودليل على حيوية المجتمع وتنوعه؛ إلا أنها تصل أحيانا حد التخوين والتكفير والرغبة الجامحة في إقصاء الآخر. هذه التصنيفات مرفوضة ومدانة، وهي طبعا لا تنسحب على الكل، وتبقى نسبية، لكنها موجودة بمستويات متباينة، ومن الصعب إنكارها، ولا يحوز تجاهلها أو السكوت عنها.

فهي من ناحية تلغي الفوارق الشخصية بين الأفراد، وتتجاهل حقيقة ومشروعية الاختلافات بين البشر، وتُصدِر أحكاما مطلقة غالبا ما تكون غير صحيحة، ومن ناحية ثانية تؤجج من عوامل التفسخ والتشرذم، وتضعِف من قوة الهوية الوطنية الجامعة، بل وتضعف من الجبهة الداخلية، وتسمح للعدو بالنفاذ من نقاط الضعف، وهي مدانة لأنها ضرب من التمييز العنصري، يفتح المجال لكل شخص أن يحكم على الآخر، وأن يصنفه بكل خفة ودون أن يهتز له جفن. لحسن الحظ، فإن المجتمع الفلسطيني لم يصل في أية مرحلة من تاريخه إلى مستوى الاقتتال الطائفي، ولا حتى مستوى الانفصال والتجاذب على أسس مذهبية أو قبائلية أو مناطقية، وهو بالعموم نسيج متجانس ومتآلف؛ ورغم أن الأكثرية مسلمون ومن نفس الطائفة (السنية)؛ إلا أن الوجود المسيحي لم يكن يوما غريبا أو طارئا أو موضع تساؤل، ولا توجد أقليات مضطهَدة، وهناك حالة تعايش رائعة بين المسلمين والمسيحيين. ومن ناحية ثانية فإن طبيعة الاقتصاد الفلسطيني والواقع العام لا يسمحان بنشوء تكتلات اقتصادية متناحرة أو حتى متنافسة.

كما أن الفرز الطبقي (في المجتمعات شبه الرأسمالية) لا يصل إلى درجة من العمق تؤدي إلى نشوء طبقات شديدة التباين، رغم وجود تباين فاحش في المستويات الاجتماعية. فالأغلبية الساحقة تقريبا تعيش بنفس المستوى، وبسبب عوامل عديدة منها طبيعة البلد ومحدوديته لا نرى نفس أشكال الفرز الطبقي الموجود في الدول الأخرى، حيث تجد في نفس المقهى أثرياء ومتنفذين ورجال سلطة وعاطلين عن العمل وطلاب جامعة .. وهذه العوامل تحصّن المجتمع من السقوط في مستنقع الاحتراب الداخلي .. لكنها لا توفر ضمانات أبدية ومطلقة.

وقوع الشعب الفلسطيني برمته تحت الاحتلال الإسرائيلي من المفترض أن يوحّده، وأن يفرض عليه عقدا اجتماعيا بعقل جمعي مشترك، يؤدي إلى السمو فوق الفوارق الشخصية والاجتماعية، والتقليل من أهمية التناقضات الموجودة داخل المجتمع؛ فمرور أي شعب في مرحلة التحرر الوطني يذوّب جميع فئاته وشرائحه في بوتقة العمل الوطني، ويصهرهم جميعا في مهمّة النضال لنيل الحرية وتحرير الأرض، بحيث تصبح جميع الاختلافات الطائفية والأيديولوجية والطبقية خلافات ثانوية، تختفي ليحل محلها ما هو أكثر أهمية، وتصبح كل الجهود والطاقات موجهة ضد التهديد الخارجي، أي ضد الاحتلال. ولذلك فإن تحقيق الوحدة الوطنية يعد شرطا أساسيا لخوض المعركة، ودونها لا يمكن الظفر بأي نصر.

والوحدة الوطنية ليست فقط بوابة الانتصار؛ بل هي بوابة الدخول للحالة الإنسانية بمعناها التقدمي والحضاري الذي يسمو على كافة أشكال التمييز العنصري؛ لأن كافة أشكال التمييز والتصنيف تعد نقيضاً للإنسانية، وهي خطيرة مهما بدت صغيرة وتافهة؛ ففي مناخ الاستقطاب والتعصب وغياب التسامح قد يصبح التحيز لِـ «برشلونة» أو «ريَال مدريد» مقدمة لما هو أخطر مما نتوقع