تزييف الرأي العام ............ إبراهيم نصر الله

06qpt998
حجم الخط

تبدو ظاهرة الالتفاف العام حول القضايا المصيرية الكبرى من أنبل الظواهر، حيث تلتقي الحواس كلها والقلوب، في لحظة ما للدفاع عن أعمق ما في الإنسان من وعي جوهري بالحرية، العدالة، الكرامة..، وهذه الظواهر تتشكل تدريجيا لتبلغ ذروتها، أو تتشكل خفية قبل أن تعلن عن انفجارها في لحظة قد لا يستطيع أحد التنبؤ بها، وغالبا ما يكون هذا الانفجار العام ضد دكتاتورية أفراد أو جماعة مهيمِنة، فاسدة، مضللة، وممتصّة لدم الشعوب وخيرات أوطانها.
دائما كان العالم بحاجة لهذا الطوفان، حينما تتكلّس التنظيمات والأحزاب والقيادات التقليدية، وتدخل نفق البيروقراطية النضالية، بحيث تغدو الرتابة هي المحرك المطفأ الوحيد الذي تعتقد هذه القيادات أنه ما زال يعمل، وهي في الحقيقة لا تسمع سوى رجع صدى صوته الذي كان من عشرات السنوات.
تخرج الشعوب إلى الشوارع، أو إلى الغابات والجبال مقاتلة، حين لا تعود قادرة على التحمّل أكثر.
في بعض الأحيان تخرج مجتمعة، في لحظة حسم تاريخية، وفي أحيان أخرى تظهر بطولة الأفراد الذي يصنعون الفرق وهم يتحولون إلى مشاعل لا بد منها للتخلص من هشيم يصر على أن يلعب دور السنديان.
إدراك الطغاة والفاسدين والمستفيدين، بوعيهم، أو بلا وعيهم، أو بمكابرتهم وغرورهم، دفعهم في زمننا هذا، وهم يمتلكون وسائل كثيرة، لإطفاء الشعلة قبل أن تشتعل، والموجة قبل أن تعلو، كما دفعهم لتشكيل رأي عام مزيف؛ ولعل تجربة الشعوب العربية مع قيادتها، القيادات التي رفعت شعارات تحرير فلسطين مثال حي على ذلك، فقد قُمِعتْ هذه الشعوب طويلا وأُسكِتتْ وفرضت عليها الأحكام العرفية وسيقتْ إلى السجون لأنها كانت تنفست أكثر مما يجب كلما نهضت من أجل فلسطين؛ كما أن بث الرعب في قلوب البشر على صعيد الأمن والأمان وبحبوحة العيش، هي اليوم أكبر وأهم ظاهرة تعيشها الشعوب المغلوبة على أمرها، الشعوب التي بات عليها أن تغض الطرف إذا ما رأت فسادًا أو اعوجاجًا أو استهتارا بمصالح أوطانها وخيرات هذه الأوطان، أو رأت سحق رقاب أبنائها الذين ما زالوا مصرِّين على أن يروا ما يحدث، وأن يحتجوا، وأن يتحدثوا، وأن يحلموا.
إن تشكيل رأي عام زائف، بات ظاهرة واسعة في حياتنا العربية، وفي حياة سكان هذه المعمورة، وبهذا الوعي الزائف الذي شكلته آلات إعلامية جبارة، كان احتلال فلسطين أمرًا إنسانيا، وتدمير العراق سلاما عالميا، ودعم الديكتاتوريات مصلحة وطنية، وغزو البلدان والتدخل في اختيارات شعوبها وقوفا مع الحريات؛ ولكل قضية من هذه القضايا مسوّغاتها، وأدواتها، وقد تستخدم خطة لتقويض حكم ديمقراطي في دولة ما، بعد أن يتم عكسها، لدعم الديكتاتورية في دولة مجاورة أو قارة أخرى.
لم يعد ذلك الجيش الخفي المكوّن من صحافيين وكتاب مأجورين ومخرجين وممثلين وكتاب السيناريوهات، وقادة رأي مسموعين، وأساتذة ونجوم برامج وسواهم، وحدهم الذي يعملون ليل نهار لصناعة رأي عام مريض أو معاكس أو أعمى أمام القضايا الحقيقية، بل باتت وسائل التواصل الاجتماعي فضاء استثنائيّا للعب بالعقول وإثارة النزعات القومية والدينية والإثنية، والتلاعب بالجمهور، ونشر سجادة لا حدود لها تتجمع فوقها اتجاهات ساذجة لا تعرف مدى جهالة علمها ولا عبودية أفكار حريتها، ولا القيود المحكمة على أقدام إنسانيتها.
دعهم يحسون بالحرية، ولكن لا تعطهم الحرية، دعهم يخافون على الوطن، ولكن لا تعطهم الوطن، دعهم يدافعون عن الأمان ولكن دعهم خائفين، دعهم يأكلون ويشربون، ولكن بما يكفيهم لأن يعيشوا لا أكثر، دعهم يتحدثون ويبوحون بكل ما في قلوبهم، وعلى الهواء مباشرة، لكن لا تعطهم الأوكسجين. دعهم يتطاولون على كل شخص سوى شخص واحد أو سلالته.
وثمة دائما أغبياء يتقنون المساعدة.
عالم غريب، تقف في أعلى صناعاته، صناعة الرأي العام، فتعثر على أناس مستعدين لإبادة آخرين، وليس لديهم أي فكرة حقيقية عن مَن هم هؤلاء الذين سيبيدونهم، أو مَن هؤلاء الذين يريدون سحقهم، كما في (البريء) الفيلم الجميل للراحل عاطف الطيب.
كانت صناعة رأي عام السجانين والجلادين بسيطة في ذلك الزمان، فيكفي أن تقول لذلك الساذج، ولا نقول البريء إن من سيعذبهم ويسجنهم أعداء الشعب، لينقض عليهم بكل ما فيه من قوة لتفتيت لحمهم، وخنقهم بيديه العاريتين أيضا. أما اليوم فتتم، في عالمنا العربي، صناعة الملايين الذين يفوقون في سذاجتهم وعنفهم وجنونهم شخصية أحمد في ذلك الفيلم الرائي.
ملايين تندفع لالتهام سواها، ويبدو الملتَهَمين ضحايا مناسبين لمجرد اختلاف لونهم أو اختلاف جنسهم، أو اختلاف عرقهم، أو اختلاف دينهم ومعتقداتهم، في حين لم يدرك هؤلاء القتلة أنهم يتحولون إلى فرائس في اللحظة التي يحولون الآخر إلى فريسة.
ما الذي أوصل البشرية إلى هذا العمى بعد ثلاث رسائل سماوية وأنبياء كثيرون وملايين المُصلحين والحكماء والفنانين والأدباء ومليارات الكتب والأغاني والمسرحيات والأفلام وابتسامات الأطفال التي تستحق زمنا غير زمن الذبح عن قرب وعن بعد.
هل ستصحو البشرية ذات صباح بعد ليلتها الأزلية الطويلة… 
إن من يعتقد أنه سيصل إلى خلاصه الفردي في ظل هلاك جماعي، مخطئ بالتأكيد، كما أن بلدا يعتقد أن سينجو في ظل هلاك كوني مخطئ بالتأكيد، ولعل هذا الوعي الفردي بالخلاص على كل مستوى، هو من أشد أمراض البشر وبائية وأكثرها وحشية اليوم، لا سيما أن إبادة الآخرين تتمّ دون أن يشكل هؤلاء أي خطر، ولم يسبق لهم ذلك.
لقد بتنا في هذا الزمان، كما كنا دائما كبشر، بحاجة، على الأقل، إلى قلب واثق في ظل الخيمة السوداء لهذا العقل المرتبك.
وبعد… 
جارةٌ سوفَ تصرُخُ في وجهِ جارَهْ
هكذا فجأةً، دونما سببٍ واضحٍ، في صباح جميلْ!
رجلانِ سيصطدمانِ على درجاتِ البنايةِ ينتهيانْ
قاتلًا وقتيلْ!
شاعرٌ سيفرُّ من الموتِ عبر الحدودِ لينجو
فيُشْعِلُ حربْ
.. وبارجةٌ رفَعتْ خطأً درجاتِ الحرارَهْ
حينَ مسَّتْ مياهًا مُعاديةً
(فجأةً، هكذا.. ستزولُ الحَضَارَهْ!)