قدَّم الإعلامي المصري «توفيق عكاشة» نموذجا بائسا في الإعلام الشعبوي، القائم على التحريض وتهييج المشاعر. و»عكاشة» ليس مجرد شخص مسكين، أو موتور، أو مهما كانت صفته، فهذا ليس موضوعنا؛ إنه ظاهرة إعلامية أخذت مؤخرا تبرز وتتعزز أكثر فأكثر في الفضاء الإعلامي العربي، بشقيه الرسمي والمستقل، وبشكل أكبر في إعلام التواصل الاجتماعي. وإذا كان «عكاشة» يتبع أساليب سوقية، ولا يحترم عقول الناس ووعيهم؛ فإن الإعلام العربي عموما مليء بظواهر شبيهة بأسلوب «عكاشة»، وأحيانا تزيد عنها سوءاً؛ فمثلاً، بماذا يختلف «عكاشة» عن «لميس الحديدي»، و»أحمد موسى» !؟ اللذين يبرعان في تهييج العامة، وبث الأحقاد ومعاداة الشعوب، أو «فيصل القاسم»، و»إبراهيم حمامي» ؟! اللذين لا يعرفان سوى التهريج والردح والشتائم، وقلب الحقائق، أو «وجدي غنيم» الذي يشتم ببذاءة ويحرض على الطائفية ؟ أو «العريفي» الذي يدعو لأن تلبس الطفلة حجابا أمام والدها في المنزل حتى لا تثير فتنته !! تقريبا لا يختلفون عن «عكاشة» بشيء.. وإذا كان «عكاشة» مجرد مذيع سقط سريعا؛ فهنالك محطات فضائية ضخمة، تدعي الموضوعية والحياد، وهي في حقيقة الأمر أشد خطرا من «عكاشة»، وما يميزها عنه، أنها أكثر براعة في تمرير سمومها. ولمن يظن أن «عكاشة» يظهر فقط في التلفزيون، وأن الإعلام السيئ ربما يكون في الإنترنت، إليكم رسام الكاريكاتير «بهاء ياسين»، الذي اشتهر برسوماته في صحيفة «الرسالة» الحمساوية، التي أساء فيها للمرأة الفلسطينية، وللعَلم الفلسطيني، واعتبر فيها أن الضفة الغربية شيء وغزة شيء آخر تماماً. وأيضاً، بعض الإعلاميين الفصائليين الذين نسوا إسرائيل، وتفرغوا كليا لمقارعة فصائل منافسة ! في حقبة الستينيات والسبعينيات كانت الأنظمة الشمولية تحتكر الإعلام، وتستعين به لتوجيه الرأي العام. تلفزيون فلسطين يقدم مثالا على هذا النمط من التفكير، حيث ينهج أحيانا نفس منطق الستينيات، ويقوم بنفس الدور (السلطوي)، وبنفس الآلية المثيرة للشفقة، فإذا كان الخبر عن حماس مثلا، أو عن أية فعالية في نطاق المعارضة فلا يتم ذكره، وعندما احتشد عشرات الآلاف من المعلمين قبالة رئاسة الوزراء تجاهل الخبر تماما. وبأداء لا يرتقي للمهنية، قام بعرض مشاهد مجتزأة لمدارس معينة حضر إليها عشرات الطلبة، مع تقديم إحصاءات ونسب عن كسر إضراب المعلمين، تبين فيما بعد أنها غير دقيقة. وفي المقابل، تقدِّم فضائية الأقصى المقربة من حماس، نموذجا بائسا للإعلام الحزبي المتشنج والمتحيز، المتمسك بأسلوب الخطابة الإنشائية دون مراعاة للموضوعية والمهنية. ونفس الشيء، وربما بوتيرة أقل الفضائيات المقربة من حزب الله والجهاد الإسلامي. من الغريب وجود هذا النمط من الإعلام التقليدي المتخلف، الذي لم يتأثر بالتغيرات الثورية التي طرأت في عالم الإعلام، ولم يدرك أن الوضع تغير كلياً؛ وأنه بفضل الثورة الرقمية صار كل مواطن صحافيا، بطريقة أو بأخرى، وظهر نوع جديد من الإعلام يطلق عليه الإعلام الاجتماعي، أو صحافة المواطن، وأنه مع قدوم هذا الوافد الجديد، المتصف بالديناميكية والتغير المستمر، أخذت الصورة تتغير؛ فصار هناك مجال للرأي والرأي الآخر، والتفاعل مع الأحداث، وحتى التأثير فيها، لكن من دون وعي جماهيري كافٍ بأهمية هذا الدور وكيفية ممارسته. ظاهرة الفيديوهات المقتطعة مثال على ذلك، وهي إحدى الوسائل غير المحترمة التي تستخدم بكثرة لخداع الناس، خاصة على مواقع الإنترنت، حيث يقوم أي شخص بعملية مونتاج لفيلم قصير قد يكون مصوراً بكاميرا هاتف محمول، أو منسوخاً عن قناة «اليوتيوب»، أو عن محطات التلفزة، بحيث يُظهِر ما يريد إظهاره والتركيز عليه، ويخفي متعمداً الأجزاء التي لا تتوافق مع ما يريد.. كما ظهر في المقابلة المجتزأة مع عزام الأحمد والتي ظهر فيها كما لو أنه يشتم المعلمين. وربما يكون الرئيسان «محمود عباس» و»عبد الفتاح السيسي» أكثر من تعرض لهذا النمط من التضليل الإعلامي، وآخر مثال على هذا الأسلوب صورة للرئيس «السيسي» وهو يصلي في أحد المساجد، وقد نجح منتج الفيلم بقطع جزء من الصلاة (وضع الركوع) فظهر الرئيس كما لو أنه يؤدي صلاة غريبة مختلفة عن صلاة المسلمين التي نعرفها. مثال آخر، ظاهرة الأخبار المختلقة، والشائعات، والتفسيرات الساذجة، والتعليقات المتسرعة التي تقدم نفسها كحقائق ثابتة، وهي أبعد ما تكون عن الحقيقة والمنطق، فعلى سبيل المثال، حين وقع حادث تفجير في ماراثون بوسطن (2013)، انطلقت إثره أكثر من 8 ملايين تغريدة للتعقيب على الحدث، فقط 20% منها كانت صحيحة ودقيقة، والباقي تكهنات وإشاعات عرّضت حياة كثيرين للخطر، وضللت الرأي العام، وهي إحصائية قام بها مختبر الأخبار الأميركي. ولو قمنا بنفس التحليل للتعليقات وللأخبار المنشورة تعقيبا على أي حدث يحصل عندنا؛ لوجدنا أن أغلبيتها غير صحيحة، ومضللة، كما حدث مؤخرا في قضية اختفاء الشبان الثلاثة، الذين عثرت عليهم الأجهزة الأمنية في إحدى القرى، وقيل عنهم حينها عشرات القصص والروايات المختلفة. وفي معظم الأحيان يكون تزوير الأحداث عن قصد، ولدوافع سياسية وحزبية. والمشكلة في قدرة مروجي الشائعات العجيبة على تشكيل الرأي العام وتوجيهه. ليست القنوات الإعلامية الحزبية والمسيّسة وحدها من يعمد إلى تشويه الحقائق، وبث دعايات سياسية معينة؛ أيضا، وبسبب ارتفاع وتيرة التنافسية، أخذت بعض الوسائل الإعلامية التجارية تنشر أخبارا غير دقيقة، ومتسرعة، حتى قبل أن تتضح الحقائق، وأحيانا تنشر صورا مفبركة عن طريق تقنيات «الفوتوشوب»، وأحيانا لمجاراة الشارع، تقوم بترديد شائعات، ما أدى لفقدانها مصداقيتها. وثمة ظاهرة سلبية أخرى تتكرر كثيرا في المواقع الإخبارية، وهي نسخها للتقارير عن بعضها البعض، دون ذكر المصدر الأصلي، وبنفس الأخطاء الإملائية. لا يهدف هذا المقال للدفاع عن أي شخص، أو مهاجمة أي شخص؛ فليس بوسع أحد أن يجبر الآخرين على حب أو كره قائد معين، أو تأييد رئيس أو جماعة.. ومن حق كل إنسان أن يعترض وينتقد ويعبّر عن رأيه بحرية.. لكن، أن تُبنى نظريات سياسية، وأن يتم توجيه الرأي العام، وأن يتم اتهام الناس بناء على أكاذيب، وأفلام مجتزأة، وأنصاف حقائق، فهذا غير مقبول، هذا أسلوب ديماغوجي غير محترم.