حين صدر عن مجلس الأمن الدولي قرار يحدد خريطة طريق لتسوية الأزمة السورية، تفاءل المتفائلون بأن الملف السوري سيطوى سريعاً وأن الحل السياسي قاب قوسين أو أدنى، غير أن كافة الوقائع لا تثبت إلى هذه اللحظة أن المسار السياسي هو الوصفة لحل الأزمة السورية. ثمة وقائع تعكس نفسها على أرض الواقع، من بينها إجراء الانتخابات التشريعية في مناطق تسيطر عليها القوات الحكومية السورية، وهذه الانتخابات تعني فيما تعنيه أن النظام السوري هو الشرعية التي لا تعلو عليها شرعية. هذا ما أراد تثبيته الرئيس السوري بشار الأسد، ذلك أن إجراء الانتخابات في إطار استكمال المسار السياسي بمثابة رسالة واضحة وقوية اللهجة أن النظام السوري يتمتع بقوة وعافية وأنه صاحب السلطة الذي يسيطر على البلاد ويدير دفتها. غير أن إجراء الانتخابات البرلمانية في وقت تنطلق فيه جولة جديدة من المفاوضات السورية- السورية غير المباشرة في جنيف، من شأنه أن يؤثر سلباً على العملية التفاوضية، خصوصاً وأن المعارضة السورية شككت بالعملية الانتخابية على أساس أنها جاءت من ظهر سلطة فقدت الشرعية. ليست وحدها المعارضة من انتقد الحكومة السورية على تنظيم هذه الانتخابات، وإنما شككت دول غربية من بينها فرنسا بالعملية الانتخابية واعتبرتها صورية، واستخلصت باريس موقفاً يذهب إلى أن النظام السوري ليس جدياً في موقفه من المفاوضات الجارية. هذه واحدة من الموضوعات التي تؤثر على عصب المفاوضات، إلى جانب الموضوع المهم المتصل باستمرار النزاع في بعض المناطق السورية، بما فيها مدينة حلب، ويلاحظ هنا أنه كلما خلص المتفاوضون في جنيف إلى نتيجة صفر، يشتد النزاع فيما بينهم، وكأن العبرة تقتضي أن يحقق بعض الأطراف انتصارات ميدانية تجعله قادراً على المناورة السياسية وتثبيت شروطه. لقد حاول المبعوث الدولي الخاص إلى سورية ستيفان دي مستورا، إجراء اجتماعات وقائية تسبق انعقاد الجولة الجديدة من المفاوضات، ولعل الهدف من هذه الاجتماعات التي استهدفت دولاً مؤثرة في النزاع السوري مثل روسيا وإيران وعمان... إلخ، السعي إلى تثبيت وقف إطلاق النار، والحصول على تطمينات بشأن النقاش الجدي حول موضوع الانتقال السياسي. ربما كان الجهد الأبرز لدى دي مستورا العمل مثل الصليب الأحمر من أجل تمكين الهدنة وعدم إفشالها، كونه يدرك أن فشلها سيؤدي إلى فشل العملية السياسية برمتها، ويبدو أنه حصل على جواب شفهي من أن الخروقات لن تتجاوز فشل التهدئة. أما طرفا النزاع السوري فيبدو أنهما حصلا على ضوء أخضر من تحت الطاولة صادر عن حلفائهما، لتحقيق نوع من الاختراق في ميزان القوى العسكري، وإلا من الصعب عليهما أن لا يلتزما بوقف إطلاق النار إذا أرادت كل من روسيا والولايات المتحدة ذلك. هذان البلدان يدعوان إلى تثبيت وقف إطلاق النار والتركيز على الجهود الدبلوماسية التي يبذلها دي مستورا، غير أنهما لا يدفعان قدماً باتجاه دعوة طرفي النزاع لتثبيت وقف إطلاق النار بشكل فعلي، وكأن الموضوع غض الطرف عن بعض الخروقات. بهذين الموضوعين الشائكين، يبدو أن المبعوث الدولي لن يتمكن من الخوض الجدي في موضوع الانتقال السياسي، ولعله سيركنه على الرف بعضاً من الوقت، ليس لأنه أبو القضايا الخلافية بين فريقي النزاع السوري فحسب، وإنما لأن موضوعاً مثل تثبيت الهدنة أصبح من أهم الأولويات التي تستدعي النقاش فيه من أجل التقدم في المسار السياسي. بهذا يتضح أن الصورة التي تحيط الملف السوري قاتمة ولا تبعث على التفاؤل، ويتضح أكثر أن المسار السياسي سيصل إلى القاع حتى يمكن القول حينها إننا اقتربنا من الحل السياسي، وبالتفصيل أكثر يعني أن فرقاء النزاع السوري سيتفاوضون وفي ذات الوقت يتنازعون عسكرياً. ثمة من يطرح سيناريوهات للأزمة السورية، تتنوع بين أن يتفق المتفاوضون في جنيف على شراكة محاصصة تجنبهم استكمال القتال، أو تواصل النزاع إلى حد عجز طرف عن مجاراة الطرف الآخر وبالتالي خروجه من حلبة الملاكمة، أو فشل الطرفين من الوصول إلى توافق واستدعاء طرف ثالث آخر (تكنوقراط أو خلاف ذلك) يسيّر أمور الدولة إلى حين إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية. السيناريو الواضح هنا هو أن فريقي النزاع يعتبران القتال العسكري معبراً لتسهيل الوصول إلى الحل السياسي، لأن لغة التوافق غائبة تماماً بينهما في مشهد المفاوضات، وأغلب الظن أن التهدئة ستظل هشة في حضرة السلاح، والمفاوضات ستكون انعكاساً لحالة التهدئة. القصد من ذلك أن سورية لن يسلم أمرها إذا لم تصل إلى «خثر الفنجان»، وحالها أنها كذلك وهذا ما تريده القوى الدولية المؤثرة في النزاع السوري، فإذا انتصرت روسيا والنظام السوري في هذه المعركة، فهذا يعني أن موسكو ستستفيد من جهة تمكين وجودها في سورية، وإعادة إعمار البلد ودعوة الشركات الروسية للاستثمار في دمشق. إذا فازت روسيا فإن واشنطن لن تخسر في هذه المعادلة، لأنها تكون قد وصلت إلى ما تريده وهو تدمير سورية جيشاً وشعباً وتحويله إلى جيش هزيل غارق في أوضاعه الداخلية وغير قادر على الوقوف أمام الجيش الإسرائيلي والعقيدة الصهيونية التي تستهدف إضعاف الجيوش العربية القوية. أما موضوع أن تهزم واشنطن موسكو في الملعب السوري فإن هذا الأمر مشكوك فيه، ذلك أن روسيا لن ترضى بالخسارة في سورية، وترى في المدخل السوري تمظهر القوة الروسية باعتبارها نداً حقيقياً للقوة الأميركية. لكن يجوز القول إن المعادلة المرجحة في هذا الأمر أن يخرج الكبار بنتيجة صفر/صفر، وهو التعادل الذي سيضمن لهما تحقيق مصالحهما في منطقة الشرق الأوسط وتقاسم الغنائم كما هو حال اتفاقية سايكس بيكو بين البلدين بريطانيا وفرنسا. الخلاصة هنا أن سورية إن عاجلاً أم آجلاً ستكون أمام مرحلة الحل السياسي، لكن حينذاك تكون قد عادت إلى الوراء عشرات السنين، بعد أن سحبت دمها كل من روسيا والولايات المتحدة التي لا تهمانها سوى تحقيق مصالحهما في دولة عربية شكلت عنواناً لحرب بالوكالة بين الكبار.
المخاض العسير للتحول الديمقراطي في أفريقيا؟
26 سبتمبر 2023