يقول الدالاي لاما: "عندما نعلّم عقول الشباب، يجب ألا ننسى تعليم قلوبهم". وتثبت المستويات التعليمية المرتفعة في صفوف كثير من المنضوين تحت لواء تنظيم داعش، صحة هذه المقولة وضرورة عدم الاكتفاء بتربية العقل.
مع داعش، وجماعات متطرفة سبقتها، نُسفت نظريات كثيرة قيلت عن أن العلم يحمي من التطرف، والمتطرفين يأتون دائماً من مناطق مهمشة وفقيرة. صحيح أن عصب هذه التنظيمات هم كذلك، والأمثلة عمن اشتهروا عالمياً، كشريف كواتشي المتهم في حادثة "شارلي إيبدو"، أو أميدي كوليبالي الذي قتل الرهائن في سوبر ماركت باريسي، تشير إلى أن هذين الشابين افتقرا للتعليم الجامعي.
في المقابل، هناك أمثلة عديدة أخرى فيها تناقض فاضح. ثمة الكثير من "الجهاديين" الذين يقدمون صورة عن الإرهابي ذي التعليم العالي، والآتي من عائلة ميسورة. والأمثلة البارزة، خالد شيخ محمد، الذي عرف بالعقل المدير لأحداث 11 سبتمبر. وزعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري، خريج كلية الطب، وقبله أسامة بن لادن خريج جامعات لندن.
الهندسة وسوق العمل الجهادي
في كتابهما المعنون "مهندسو الجهاد"، الذي نشر مطلع الشهر الجاري، ونشرت مجلة "فورين أفيرز" مقتطفات منه، يجري الكاتبان دييغو غامبيتا وستيفن هرتوغ، تحقيقاً منهجياً عن مستويات التعليم لأكثر من "4000 شخص من المتطرفين السياسيين، الذين عملوا في جميع أنحاء العالم الإسلامي والغربي". يذكّر الكاتبان ببعض العناصر ذوي التأهيل التعليمي العالي في الخط الأمامي. ومن هؤلاء سيف الدين رزقي، الذي قتل 38 شخصاً على شاطئ سوسة في تونس عام 2005. وكان طالباً في كلية الهندسة الكهربائية في إحدى الجامعات المحلية. ثم يعودان إلى هجمات 11/9 ليشيرا إلى أن من بين 25 فرداً تورطوا مباشرة، درس 8 منهم الهندسة.
يعترف كل من غامبيتا وهرتوغ في كتابهما، أن الأرقام التي خرجا بها غير دقيقة تماماً لصعوبة الوصول إلى إحصاءات وافية عن هذا التنظيم. لكن ما يحسب للكتاب، محاولته البحث عن أرقام دقيقة تدحض الصورة النمطية في الإعلام، وتحديداً الغربي، الذي يخرج في كل مرة للحديث عن التهميش والفقر كمبررين للتطرف. في الكتاب أيضاً، محاولة لإحصاء عددي لحاملي الشهادات التعليمية، بينما يبدو اختصاص الهندسة الأكثر طلباً في أوساط هذا التنظيم.
في كتاب "مهندسو الجهاد"، يتبيّن أن من بين أولئك الذين ارتادوا الجامعة، وانضموا لاحقاً إلى التنظيم، النسبة الأكبر للمهندسين في كل جماعة جهادية حول العالم. فمن بين 207 من المتطرفين الإسلاميين في العالم الإسلامي، درس 93 الهندسة، أي نسبة 44.9%، في حين يشكّل خريجو الهندسة 11.6% فقط من إجمالي الخريجين في الدول المعنية. ومن بين 71 من المتشددين في الغرب الذين ارتادوا الجامعة، درس 32 الهندسة أي 45.1%، مقارنة مع 16.2% من إجمالي الخريجين في الغرب.
في المقابل، تختلف مستويات التعليم بشكل عام في كل منطقة، ويظهر أن بين 497 حالة من المتشددين في العالم الإسلامي، 46.5% ارتادوا الجامعة. في حين أن في العينة الغربية المكونة من 344 فرداً يصل المعدل إلى 25.2%. وهذه معدلات، بحسب الكتاب، لافتة للنظر، خصوصاً أن معدلات الالتحاق بالجامعات مقارنة بالعدد الكلي للسكان في البلدان التي خضعت للدراسة في العالم الإسلامي هي 11.3% مقارنة بـ43% في الدول الغربية. ما يعني أن احتمالات ذهاب المتطرفين في العالم الإسلامي إلى الجامعة، أعلى بنحو 15 مرة من العالم الغربي.
المتعلمون في السبعينيات: منجم ذهب الجماعات المتشددة
يعود الكاتبان للتذكير أن البيانات غير مكتملة بسبب أن الأعضاء الناشطين في هذه الجماعات هم من يكشف عنهم، في حين أن آخرين يبقون في الظل، ولا يمكن التأكد تماماً من أن المهندسين يجتذبون فقط لغايات فنية. علماً أن ما كان واضحاً بحسب الأرقام أن 15% من المهندسين يعملون كصانعي قنابل و26% يديرون أجهزة الاتصالات.
أما الصورة الأعم، بحسب الكتاب، فترجع إلى انضمام المتشددين إلى عوامل اقتصادية. ولهذه العوامل جذورها التاريخية. حين ظهرت الراديكالية في مصر ودول عربية أخرى بين خريجي الجامعات للمرة الأولى في سبعينيات القرن الماضي، حينها كانت الاقتصادات العربية تتراجع بشكل حاد، في مقابل توسّع نظم التعليم العالي التي تخرّج أعداداً كبيرة. كان الخريجون العاطلون عن العمل بمثابة منجم ذهب للجماعات الإسلامية، فظهرت في الجامعات الشبكات المتطرفة، التي اتكأت على رفض الأنظمة الفاسدة والأنظمة العلمانية، وقمعت الخريجين الجدد. بدورها، كانت الجماعات الإسلامية تدعو إلى حياة التقشف، باعتبارها دليل استقامة أخلاقية، ورفضاً لفساد الحكام الموالين للغرب.
وفي ما يتعلق بانتشار المهندسين، يساعد التاريخ في الفهم أيضاً. ففي الكتاب، الهندسة هي واحد من التخصصات الأكثر طلباً في الجامعات في العالم الإسلامي، ما يجعل دراستها صعبة وسوق العمل فيها أصعب. في فترة السبعينيات، شكّل المهندسون النخبة التكنوقراطية الصغيرة والغنية التي لم تنشغل وقتها بالمعارضة السياسية. حينها كان عصب الجماعات الإسلامية من المعلمين والمحامين. لكن بعد ذلك، ومع اتساع رقعة التعليم العالي على وقع تراجع الاقتصاد، ضاقت رقعة العمل أمام المهندسين، وبدأوا بالظهور في الجماعات المتطرفة. في تلك الفترة تقدم السعودية استثناء لكنه يؤكد القاعدة، فأصحاب الكفاءات وتحديداً المهندسون، ظلوا بعيدين عن الجماعات المتشددة، بسبب تمتعهم بفرص عمل أمنتها قطاعات النفط والغاز والصناعات الثقيلة.
الحرمان لا يعني التطرف
إذاً، دراسة السياقات الاجتماعية والاقتصادية مهمة في فهم ظاهرة التشدد، ولكن لا بد لها أن تبتعد عن نظرية المستويات المطلقة للتخلف والتي تولد الإرهاب، بل اعتبار الأخير متعلقاً بالحرمان النسبي، والتوقعات المحبطة للنخب التي تكافح من أجل إيجاد مكان أفضل. من هنا، يبدو مهماً درس تقريب سوق العمل من الاختصاصات الجامعية، في بلدان لا تستوعب فيها الوظائف الخريجين. لا داعي للقول إن إحباط ذوي الكفاءات العالية أشد وقعاً وخطورة.
لا بد هنا من الإشارة إلى أن الحرمان النسبي لا يحلّ اللغز وحده، بل ثمة العديد من العوامل الأخرى المتعلقة بالشخصية والتاريخ العائلي، والبحث عن الاحتضان، واختبار عالم جديد. لكن الخلاصة التي يصل إليها الكتاب تبدو مثيرة للاهتمام، إذ يشير إلى أن حضور المهندسين القوي في اليمين المتطرف، يقابله غياب تقريبي لهم في اليسار المتطرف، ما يدفعنا للبحث في الإيديولوجيات المختلفة التي تلبي الاحتياجات المعرفية والعاطفية والاجتماعية والاقتصادية للأفراد باختلاف توجهاتهم. بحث قد لا يجد أجوبة سريعة، خصوصاً مع شباب عاشوا في مدن كبرى نمطاً من الحياة يصنف بالمتحضر، فكيف يستهويهم قطع الرؤوس واستعباد البشر؟
الهيبستر الجهادي
في كتابه "مدن متنازعة: بيروت، صنعاء، عدن"، يعري الكاتب فرانك مرمييه المدن من طابعها المتحضر. إذ جمع وثائق عن تطور المدن العربية، وتطورها الحضري والسياسي، تؤدي إلى تلاشي فكرة المدينة العربية بمفهومها السوسيولوجي الحديث تحت طبقة من المفاهيم العشائرية والريفية والدينية. هنا يشرح مرمييه أن التطرف العربي تبلور في المدن أكثر منه في الأرياف، لينسف مفاهيم نمطية عززها الإعلام لسنوات طويلة.
عززت المدن بشكلها المشوه فكرة البحث عن هوية، فلم تكن أسباب التطرف حسب ما وصفها الكاتب سياسية أو دينية. وهذا ما يدعمه بحث قامت به جامعة الملكة ماري في لندن، لم يجد رابطاً بين "التطرف وعدم المساواة أو التعليم القليل". فالعديد من المتطرفين أتوا من عائلات مرتاحة، أو عائلات ملحدة/غير متدينة، لكنهم كانوا يبحثون عن معنى "الانتماء"، عن الاحترام والتكامل. والتكامل هنا لا يعني بالضرورة المفهوم المادي له. وفي ظل تراجع الأشكال التنظيمية التقليدية التي تعزز الانتماء، عزز الإسلام المتطرف أمل الصراع ضد واقع غير أخلاقي.
كل ما تقدم، على أهميته، لا يدعي الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بأسباب انجذاب الشباب المتبني لمظاهر الحداثة لأشكال الوحشية البدائية. وقد توضح تعقيد المشهد مثلاً صورة "الهيبستر الجهادي"، التي انتشرت لإسلام يكن، الشاب المتعلم والرياضي، وهو يحمل (بمساعدة الفوتوشوب) رؤوساً لشيعة، أو يركب حصاناً مع سيف في يده، وعلامات قلة الخبرة على وجهه، تظهر كأنه يغني في حفلة صاخبة وليس في ميدان حرب.