فتحت حديثاً مع حوالى 30 عاملاً على انفراد، ضمن مجموعة تضم ثلاثة عمال، تصادف وجودهم بين يوم وآخر في الطريق أثناء ذهابي للعمل وعودتي إلى البيت. حدث ذلك في أيام مختلفة وعلى مدار عامين. كان العمال يقفون في كل مرة، بانتظار الركوب في السيارات الخاصة، نظراً لعدم وجود خط مواصلات في منطقتنا السكنية. دفعني الفضول الإنساني والصحافي إلى الحديث معهم خلال فترة ركوبهم معي، بوجوه متجهمة ونفسية منكسرة. كان سؤالي الصباحي الذي لا يخلو من استغراب، لماذا أنت عائد من العمل مبكراً بينما يذهب الناس إلى أعمالهم في مثل هذا الوقت؟ الجواب وبنسبة أكثر من النصف قالوا: «طردت من العمل»، نسبة أخرى من العمال قالوا: كنا موعودين بالعمل واتفقنا على موعد المجيء إلى الورشة مع المقاول لكنه أخل بوعده، وقال لنا: «ما عندي وقت للكلام الله والنبي معكم» ولم يَنبنا إلا عناء السفر ودفع أجرة المواصلات من قرى الخليل إلى رام الله والبعض الآخر من قرى جنين. أما بعض العمال العائدين من أعمالهم في المساء فكانت مشاكلهم من نوع آخر. تحدث العمال عن أسباب الطرد، البعض بسبب «ارتكاب خطأ لم ينجم عنه مضار تذكر»، والبعض الآخر طرد لمجرد وشاية، وآخرون طردوا بسبب اعتراض على خطأ، أو بسبب المطالبة برفع الأجرة، أو الزَّن على دفع الأجور المستحقة في أيام ما قبل العيد. كم كانت حالة 4 عمال صعبة وحزينة وهم يعودون إلى بيوتهم في العيد وجيوبهم خاوية وأياديهم فاضية! كانت تلك أصعب حالة واجهتني. أحد العمال كان له رأي آخر قال: إن المقاول يحرص على تشغيل أقاربه ومعارفه من أبناء بلدته، وكان عندما يعد أحد بالعمل، يطرد عاملاً آخر لأي سبب وبمجرد حدوث هفوة». اكتشفت أن أحد المطرودين يعمل مهندساً، قال: إن المعلم طرده، لأنه اعترض على تقليل نسبة الإسمنت والحديد في البناء، وعندما حاول شرح مخاطر ذلك، قال له المعلم: «خذ أغراضك وروِّح» وأقفل عائداً والحزن يغمره. سألته: لماذا لا ترفع قضية على المعلم وتقدم شكوى لأصحاب المشروع ولجهات الاختصاص؟ أجاب: سأفعل، ووعدته بدعم إعلامي بقدر ما أستطيع وأعطيته رقم الجوال، وكتبت عن الحادثة على الـ»فيسبوك»، لكنه لم يتصل، للأسف. عامل آخر تكرر ركوبه معي أثناء عودته من العمل وأصبح صديقاً. سألته عن طبيعة عمله. أجاب: أنا عامل مياوم في مصنع منذ سنوات، ويحسب لي أجرة ساعات العمل الفعلية فقط، لا تحسب أيام العطل الأسبوعية وأيام الأعياد وأيام المرض، وحتى عندما انقطعت الطرق بسبب الثلج. حاولت المزاح معه برمي كرة ثلج عليه، كان غاضباً لأنه سيخسر أيام عمل إضافية. ودفعه النقص المتواصل في ساعات العمل إلى طلب عمل ساعات إضافية كي يتمكن من العيش دون ديون. لماذا لا يتم تثبيتك كعامل رسمي بعد انقضاء المدة التجريبية؟ سألته. أجاب: في هذه الحالة ستقل أرباح المصنع! *وهل يوجد عمال مياومون غيرك؟ - نعم يوجد مجموعة من العمال غير معتمدة، وعندما نطالب باعتمادنا لا نأخذ غير الوعود وعند التشديد على الطلب يقول لنا المسؤول: بإمكانكم البحث عن مكان آخر، فيسقط بأيدينا: ويواصلون رحلة العذاب بصمت». قادني الحديث المتقطع مع العمال إلى سؤالهم: هل تعرفون بوجود قانون عمل من المفترض أن يكون الحكم الفصل بينكم وبين رب العمل أو المقاول؟ كل العمال الذين صادفتهم قدموا إجابات سالبة. لا نعرف شيئاً عن القانون، ومع توضيحاتي حول أهميه استخدام هذا القانون كسلاح في مواجهة الطرد وشروط العمل القاسية والأجور الهابطة وغير ذلك. كانت مواقفهم تراوح بين الصمت واللااكتراث وشكك قسم منهم بالتزام أرباب العمل والمقاولين بأي قانون، وأبدوا عدم ثقتهم بالفكرة التي أوضحتها، قالوا: إن «هؤلاء لديهم سلطة يفرضون من خلالها كل شي». دفعتني ردود العمال السبلية حول قانون العمل، للانتقال إلى سؤال: لماذا لا تعرضون مشاكلكم ومطالبكم على نقابة عمالية أو اتحادات نقابات العمال وما أكثرها؟ وبمجرد نطق كلمة نقابة أو اتحاد نقابات كانوا يستغربون ويلوذون بصمتهم. لم يقل واحد من العمال الذين صادفتهم إنه ينتمي إلى نقابة أو سبق له وانتمى إلى نقابة. ولسوء الوضع أجمعوا على أنه لا فائدة من النقابات والاتحادات. لا نعرف عنهم ولم نصادفهم، قالوا. ألم يعرض أحد عليكم الانتساب إلى نقابة ما؟ ألم يقم نقابيون بزيارتكم في مواقع العمل أو قريباً منها؟ ثلاث عمال من بين حوالى 30 عاملاً قالوا: «إنهم دعوا إلى المشاركة في احتفال بمناسبة الأول من أيار»، ولم يستجيبوا، فلا وقت لديهم للتنزه في مراكز المدن وسماع الخطابات! لم أستسلم أمام رفضهم الذي لا يخلو من مغزى، وواصلت عرض رأيي حول دور النقابات الافتراضي، وإمكانية العمل من داخل النقابات، وإمكانية تشكيل نقابة جديدة من بينكم كعمال. لكنني توقفت بعد ما سمعت من صديقي العامل المياوم رداً صادماً. قال: لنفترض أننا عرضنا مشكلتنا على نقابة وجاءت لتدافع عنا، هل تعلم أن رب العمل سيفصلنا من العمل، ووقتها النقابة لا تستطيع عمل شيء، ونحن العمال سنخسر عملنا، نحن صراحة لا نجرؤ على الإضراب ولا حتى على تقديم شكوى، لأن صاحب العمل مدعوم من أوساط ومتنفذين في السلطة ويستطيع التنكيل بنا. في هذه المرة هزمت، لكنني لم أستسلم أيضاً. دعونا نضع النقابات على جنب. لماذا لا تعرضون مشكلاتكم إذن على التنظيمات السياسية؟ على الأقل بعضها يستطيع خوض معارك من أجل العمال. قالت أكثرية: لا صلة لنا بالتنظيمات، هذه التنظيمات لا تساعد إلا المنتمين لها أو من له أقارب في قياداتها. اثنان قالا: دعينا للمشاركة في احتفالات ذكرى التأسيس، كانوا يطلبون رفع الأعلام، الآن يستخدمون شركات إعلان لنشر الأعلام الحزبية على أوسع مساحة في البلد، شاهد رام الله الحمراء وكذلك المدن الأخرى. ولكن أين هم من هموم العمال؟ مشكلة هؤلاء العمال أهون بكثير من مشكلة عمال غزة، ومن مشاكل العمال الذين ينتمون لمخيمات سورية، ومن مشاكل عمال مخيمات لبنان. يمكن القول: إن مئات آلاف العمال والعاملات داخل فلسطين وخارجها ينتمون إلى حالة جديدة من العبودية، العمال بصريح العبارة متروكون يواجهون قدرهم وحدهم بلا نقابات جدية وبلا تنظيمات تسهر على وضع حد لمعاناتهم واستغلالهم البشع. النقابات والاتحادات في عيد العمال تطالب، والأحزاب والتنظيمات تطالب، يطالبون السلطة والقيادة التي تكتفي بتقديم واجب العزاء للعمال في عيدهم والعمال يصمتون. هذه المعزوفة تتكرر في الأول من أيار من كل عام.