أنقذوا عنب الخليل

131258107441895653568
حجم الخط
مع بداية موسم الصيف وحلول شهر رمضان، يزداد الإقبال بشكل كبير على الفواكه والخضار، ومن المفترض أن يكون هذا الموسم فرصةً للمزارع الفلسطيني لتسويق منتجاته.. ولكن الواقع غير ذلك تماما.. فمع كل موسم تتجدد خيبة المزارع الفلسطيني، وتتراكم خسائره.. قبيل الهبّة الانتفاضية الأخيرة، حاول ناشطون لفت الأنظار لأزمة المزارع الفلسطيني؛ فبادروا لتسويق شاحنة محملة ببطيخ جنين، ووقفوا قبالة حسبة الخضار في البيرة، معتقدين أن المواطنين سيقبلون عليها دون تردد.. لكن ثلة من السماسرة تصدوا لهم، وأفشلوا مبادرتهم بالتهديد أمام سمع ونظر الجهات المسؤولة التي وقفت مشلولة!!
هل المشكلة في نوعية المنتجات الفلسطينية؟ أم في ذوق المستهلك وسلوكه وثقافته؟ أم في جشع السماسرة والمهربين؟ أم في تقصير الجهات الرسمية؟
تاريخيا، تشتهر فلسطين بالزراعة، وبجودة منتجاتها وتنوعها.. وكل مدينة وقرية تشتهر بفاكهة معينة تقطر عسلا.. عنب الخليل، بطيخ جنين، مشمش جفنا، جوافة قلقيلية، التين التلاوي، البرتقال اليافي، الموز الريحاوي، الفراولة الغزية... وقد عاش الفلاح الفلسطيني لقرون طوية على خيرات هذي الأرض، زرعها بعرقه، أحبها فأحبته، وصارا صنوان.. ولكن هذا المشهد الفلكلوري على وشك الأفول..
اليوم، وللأسف الشديد تجوب أسواق المدن الفلسطينية كلها فلا تجد إلا الفواكه (والخضار) المنتجة في المستوطنات والمزارع الإسرائيلية؛ فواكه لم نألفها من قبل، زُرعت وفق التقنيات الحديثة، ببذور مهجنة ومحسنة وراثيا، وباستخدام المبيدات والأسمدة الكيماوية، وبعضها في المحميات البلاستيكية.. فظهرت رائعة من حيث الشكل، لكنها بلا رائحة، وبطعم باهت.. لكن هذا ليس هو المهم في الموضوع؛ الخطير في الموضوع أنها فواكه مبكرة، تنزل للأسواق قبل أوانها الطبيعي، وبعبوات مغرية للتسوق وأسعار منافسة.. فيُقبِل عليها المواطنون، وعندما يحين أوان بطيخ البقيعة، أو عنب الخليل أو غيرها من المنتجات الوطنية يكون المستهلك قد شبع منها، وربما لم تعد له رغبة بتناولها، وصارت أسعارها منخفضة، وبالكاد تسدد جزءاً من قيمة تكاليفها، الأمر الذي يعني خسارة متكررة للمزارع الفلسطيني.
في العام الماضي قام مزارعو سهل مرج بن عامر وسهل البقيعة بحراثة محصولهم من البطيخ، لأنه لم يعد من المجدي قطفه وتسويقه، وهذا الأمر تكرر أكثر من مرة، وفي أكثر من محصول.. ما يعني أن المزارع الفلسطيني إذا بقي على هذا الحال فسيترك الزراعة كليا، لأنها صارت مشروعا خاسرا.. وبالفعل، فقد تراجعت الزراعة الفلسطينية لدرجة خطيرة، وانقرضت الكثير من المنتجات التقليدية وأنواع عديدة من الفاكهة، لصالح مثيلاتها من المنتجات الإسرائيلية!!
ورغم الوعي الشعبي لأهمية هذا الموضوع من النواحي السياسية والوطنية، ورغم كل الشعارات الكبيرة لدعم وتثبيت المزارع الفلسطيني، ورغم حملات ونداءات مقاطعة المنتجات الإسرائيلية؛ إلا أننا جميعا نتحمل مسؤولية هذا التقصير الفظيع بحق بلدنا وشعبنا.. وزارة الزراعة، والسماسرة، والمستهلكون.. بعض السماسرة مقابل أرباح إضافية على استعداد تام لتقبل فكرة موت وانتهاء الزراعة الفلسطينية، والمواطنون أيضا شركاء في هذه الجريمة.
صحيح أن المشكلة متداخلة ومعقدة، وأنها تحتاج لجهود جبارة، وأن وزارات السلطة ذات العلاقة تبذل جهدها للتغلب عليها، لكن ما تحقق على أرض الواقع غير كافي ولا يُقنع المواطن، فلا تكفي الهبّات الموسمية لطواقم التفتيش كلما تحدثت الصحافة عن مشكلة ما؛ فالمطلوب هو خطة وطنية شاملة، تُبنى على أسس علمية ومهنية، وتشترك فيها كافة الفعاليات الرسمية والأهلية والشعبية على حد سواء، مع تعزيز قدرات الأجهزة الرقابية وتوفير كافة الإمكانيات والتسهيلات التي تحتاجها. وتكون البداية في منع أو الحد من دخول المنتجات الإسرائيلية للسوق الفلسطيني، والأهم من هذا كله أن يكون موضوع حماية المزارع والمصنّع والمستهلك على حد سواء في صلب اهتمامات الحكومة.
والمشكلة ليست فقط في المنتجات الإسرائيلية المنافسة التي تغري المستهلك؛ فبحسب إفادات الجهات الرقابية؛ فإن المنتجات الغذائية والزراعية داخل الخط الأخضر التي تصيبها الآفات بدلا من أن يتم إتلافها والتخلص منها، يتم تهريبها للأسواق الفلسطينية، مؤكدين بأن المستوطنات الإسرائيلية باتت مراكز للتهريب وبؤرا لتوضيب البضائع والمنتجات الفاسدة وإعادة إنتاجها وغشّها بأشكال لا حصر لها، وبما أن السلطة لا سيطرة فعلية لها على الحدود والمعابر، فإن المهربين يجدون عشرات الطرق لتوصيل بضائعهم المشبوهة للأسواق الفلسطينية...
ويجب أن لا نحصر اللوم على هؤلاء المهربين الذين باعوا ضمائرهم بأبخس الأثمان، فهنالك مسؤولية تقع على الجهات الرقابية، ومسؤولية تقع على المواطن الذي يرضى على نفسه شراء منتجات المستوطنات وهو على علم بها، وليس الجانب الصحي هو المهم فقط، فمنتجات المستوطنات - خاصة الزراعية منها - والتي تنـزل للأسواق مبكرا وقبل موسمها خلافا للمنتجات الفلسطينية، تشكل أكبر تهديد على الاقتصاد الوطني، وتلحق أفدح الخسائر بالمزارع الفلسطيني.
في كتابه الشيق «من القمة إلى الهزيمة» ذكر المرحوم أحمد الشقيري أن الراحل الملك الحسين بن طلال كان قد أهدى جميع الرؤساء والملوك العرب في القمة العربية الأولى التي عقدت في القاهرة 1964، أهدى لكل واحد منهم وحتى لنوابهم وللوفود المشاركة «بكسة» عنب خليلي، كان قد جمعها من كروم حلحول، وهذه الهدية على بساطتها حملت معاني سياسية مهمة، لكن أهم ما فيها هو تقديره لعنب حلحول المشهور بحلاوته وجودته الفائقة... عنب الخليل بعد أن كان هدية قيّمة تُقدَّم للملوك، صار يستجدي من يشتريه.. يا خسارة..
ياخسارة، عالمواطن الفلسطيني الذي لحد الآن غير مستعد للتخلي عن ترف التنوفا والتبوزينا والعيمك وبوظة الشتراوس، ويريد أن يتحرر من الاحتلال!! يا خسارة عاللي بصوم وبفطر على منتجات إسرائيلية!!