لماذا يزداد العنف؟

عبد الغني سلامة
حجم الخط

تصاعدت حدة العنف في منطقتنا العربية في الآونة الأخيرة على نحو مخيف.. "داعش"، الحشد الشعبي، الشبيحة، المعارضة، النظام.. منذ خمس سنوات وطاحونة الموت تسحق المدن والناس بلا رحمة.. حلقة متصلة من العنف، أخذت تتسع وتحرق في طريقها كل شيء.. من أين أتى كل هذا العنف؟ وكيف؟.
يقول علماء النفس، إن جميع تصرفات الإنسان تنطوي على عنصر سيكولوجي خفي، ولكل سلوك دوافع سابقة، ولا يمكن أن يأتي من فراغ؛ ومع أن مجمل الظروف السياسية والاجتماعية المحيطة تولد شعورا بالظلم والقهر، وتعد أسبابا كافية لأن تدفع بالإنسان إلى سلوك يرد عن نفسه هذا الظلم بأي وسيلة، إلا أنه ليس شرطا أن يقترن هذا السلوك بالعنف؛ فالإنسان، بصورة عامة، يميل للسلام.. ومع ذلك تتزايد في مجتمعاتنا حالات العنف يوما بعد يوم.
وحسب علماء النفس أيضا؛ فإن الأشخاص الذين لم يتلقوا تربية صحية، وعانوا من الحرمان العاطفي والكبت الجنسي، سيلجؤون للعنف، وكلما زادت حدة الاضطرابات النفسية وأنواع الكبت التي يعانون منها، زادت حدة العنف، وحلت القسوة محل الشفقة، ونزعة الانتقام بدلا من التسامح.
ويضيف علماء النفس أسبابا أخرى للعنف؛ فحين يُحرم المواطن من حريته وحقوقه الأساسية، أو إذا تعرض للاضطهاد، أو شعر أنه مهمّش، سيبدأ بالبحث عن قضية ينتمى إليها، ليثبّت من خلالها وجوده، ويدافع عبرها عن حقوقه، وليعلن أنه ضد التهميش، حينها سيلجأ للعنف.
وفي بعض الأحيان يكون اللجوء للعنف رد فعل غرائزي غير مدروس، منبثق من حالة اليأس والشعور بالعجز، كوسيلة للتعبير الحاد عن الشعور بالغضب المخزون، غير متقيد بقواعد معينة، بل إنه يكتسب فعاليته وقوته من كونه غير مقنن وغير مسيطر عليه؛ ومن هنا فإنه مخيف ومرعب، لأن منبعه الغريزة الثائرة المتحفزة، وبوصلته هي فقط كل ما يخدم القضية التي غضب من أجلها.
ونكون مخطئين لو اعتقدنا أن الإنسان يمارس العنف في سبيل فكرة ما، مهما بدت له هذه الفكرة مهمة أو مقدسة... فمن يلجأ للعنف إنما يلجأ إليه أولاً لمصلحته الذاتية، وسيتوحش أكثر حين يكون العنف منسجما مع طبيعته العنيفة الساكنة في داخله، وتتوسم طريقا للخروج. بمعنى آخر، فإن العنف عبارة عن استدعاء للهمجية الأولى المختبئة في دواخله، ولكن بعد تصعيدها تحت غطاء المقدس.. فالمقدس هنا سيقوم بالدور التاريخي الذي ابتدعه الإنسان من أجله، ألا وهو إيجاد وسيلة لتفريغ طاقات عنيفة وهمجية في ميدان آمن نفسيا، ويؤدى بنفس مستريحة.
فالإرهابي لا يمارس العنف لأن النص الديني طلب منه ذلك، فلا توجد فكرة تحرك الإنسان إلا إذا وجدت قبولا أوليا وهوى في داخله، تفي بحاجات نفسية عميقة كامنة؛ فالإرهابي أساسا يمارس العنف والقتل لإخراج شحنات العنف المكبوتة، ثم بعد ذلك يبحث عن النص الذي يبرر له ذلك، ويتيح له أن يمارس فعله بدم بارد ونفس متلذذة.
وللأسف فإن توظيف الدين هنا جاء ليوفر المظلة والحاضنة لكل العنف الكامن، ولتحويل أي اختلاف في الرؤى والانتماءات إلى مبررات لممارسات عنيفة وشرسة؛ وهذه في حقيقتها استدعاء لهمجية قديمة رابضة في الأعماق، فُتح المجال أمامها لتمارس شراستها.
والأخطر من ممارسة العنف هو ذلك التحول الدراماتيكي الذي يمكن أن يحققه العنف عندما يعجز كوسيلة أساسية عن الوصول للغاية المنشودة، فيصبح هدفا بحد ذاته، ثم يصبح عقيدة تجد مبرراتها في تأويل النصوص والاسترشاد بأمثلة عنيفة من التاريخ. وبالتالي ستتحول بالتدريج أدوات العنف إلى غايات أساسية للتدمير الذاتي والخارجي، فتفقد الجماعة قدرتها على الضبط والتحكم، ثم تنشأ من داخلها المجموعات الأشد تطرفا، وهكذا. وفي بعض الأحيان يتحول العنف إلى فخ؛ حيث يعمد النظام الحاكم إلى إثارة العنف لاصطياد المعارضة في لعبة العنف المضاد من أجل القضاء عليها وتصفيتها بصورة قانونية، أو تشويه صورتها بعد توريطها بالدماء.
إذن، فالعنف لا تتوقف مشكلته عند حد كونه أداة؛ بل في قدرته على التحول إلى فكرة عقائدية تتجه لتشكيل حالة من التقديس الجامح لفكرة العنف والإيمان الذاتي المطلق بمستخدميه، ما يحوّل المجتمع بأكمله إلى عدو وهمي لهذه الجماعة، ولهذا فإن الجماعة التي تمارس العنف وتنغمس فيه إلى حد تقديسه لا ترى من نفسها إلا الوجود الأحق والأفضل، إذ لا مجال هنا لتقبل الآخر.
وتاريخيا، لم تنجح أي جماعة تتخذ العنف والتطرف أسلوبا وحيدا في تحقيق أهدافها الكبرى، ومن هنا فإن أصحاب هذا النهج عندما يخفقون يقودهم الوهم بأن ما عجزوا عن تحقيقه بالعنف سينجحون فيه بمزيد من العنف، ولكن عندما يكتشفون أنهم لا يحققون شيئا، وتسيطر عليهم حالات اليأس والإحباط، سيبحثون عن أهداف سهلة ليقنعوا أنفسهم بتحقيق إنجاز ما، وغالبا ما تكون هذه الأهداف من المدنيين العزل، هذا الفشل مردّه أن طبيعة العنف وتشكيلته الذاتية تحمل في بذورها سمات الانفعالية، وتسعى لتحقيق إنجازات مستحيلة، لأنها تتجاوز سنن الطبيعية، وتتناقض مع قوانين التطور التاريخي التي تحتم على عملية التطور أن تتم عبر مراحل تاريخية طويلة.
وتلعب البيئة الاجتماعية دورا مهما في تنمية بذور العنف، ومعظم أيديولوجيات العنف والتطرف استغلت الشبان الذين يعيشون ظروف الفقر والجهل والعشوائيات، ثم وظفتهم لخدمة قضايا ومصالح أبعد ما تكون عن مصالح الفئات الاجتماعية التي ينتمون إليها.. فخطورة العنف تكمن عندما يجد أناساً معنيّين بشحذِهِ وتوظيفه لأهدافهم الخاصة، عندها ينجح العنف في اختراق البنى الرئيسية للمجتمع، ويهيمن على كافة أنشطته، ويصبح هو اللغة الوحيدة السائدة، فيغدو المجتمع برمته على حافة الانفجار في أي لحظة، وهنا فإنه لا ضمانة بأن لا يبقى العنف جاثما في الأوكار منتظرا فريسته، فيصبح العنف الذي اعتبرناه استثناء هو القاعدة. وبما أن العنف سيؤدي بالضرورة إلى العنف المضاد، فإن دائرة العنف متى ما ابتدأت من الصعب تخيل نهايتها.
ولا يقتصر العنف على الفئات التي تؤديه، أحيانا نجده لدى الجمهور الذي يستمتع بمشاهدة تقطيع الرقاب والأيدي.. يشاهدونها فرحين، مهللين، كما لو أنهم متعطشون لنوافير الدم.