اللقاء الذي جمع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بنظيره التركي رجب طيب أردوغان الثلاثاء الماضي في بطرسبورغ، هو الأول لأردوغان خارج التراب التركي بعد الانقلاب الفاشل الذي وقع منتصف الشهر الماضي، والذي تعاملت معه الحكومة التركية بحزم وسرعة في اتخاذ الإجراءات اللازمة لإفشاله.
كان لافتاً أن الاستخبارات الروسية قبل ساعات على الانقلاب هي التي أفشت أسراراً عن مخططات الانقلابيين إلى الاستخبارات التركية، وأعلمتها بنية التحضير لانقلاب.
كما كان لافتاً أن بوتين من أوائل القادة الذين وقفوا إلى جانب الرئيس أردوغان ورفضوا الانقلاب ودعموا النظام الشرعي الذي يقوده الرئيس التركي، خلافاً للموقف الأميركي تحديداً الذي تماهت مواقفه مع ترقب للوضع التركي وعدم الاستعجال في إطلاق أحكام قبل معرفة مصير الانقلاب.
هذان السببان إلى جانب أسباب أخرى، دفعت بالرئيس التركي للتوجه إلى موسكو ولقاء بوتين، على الرغم من أن العلاقات بين البلدين كانت في أسوأ حالاتها بعيد إسقاط تركيا قاذفة روسية كانت تحلق بالقرب من الحدود السورية - التركية قبل تسعة أشهر تقريباً.
على أن زيارة أردوغان إلى موسكو في هذا الوقت الحسّاس وبعد إعلان الحكومة التركية فرض حالة الطوارئ في البلاد لمدة ثلاثة أشهر بعد محاولة الانقلاب الفاشلة، مردها إلى اعتبارات كثيرة لعل أهمها أن الرئيس التركي يريد بزيارته إلى موسكو إبلاغ واشنطن رسالة قوية أن أنقرة غير راضية عن الموقف الأميركي في التعامل مع الانقلاب.
لقد بلغت العلاقات الأميركية - التركية حالة من الشد والجذب قبل فشل الانقلاب، على خلفية النزاع السوري وموقف الإدارة الأميركية من الملف الكردي، لكن هذا الخلاف لم يمنع من التعاون والتنسيق بين البلدين، خاصةً وأن تركيا عضو قديم في الناتو وحليف قوي للغرب منذ العام 1952، وتربطها علاقات استراتيجية بواشنطن.
المهم أن ضبابية الموقف الأميركي من الانقلاب الفاشل في تركيا، أعطت انطباعاً لدى الموقف التركي الرسمي بأن واشنطن لها يد في الانقلاب، وذهبت تفسيرات الأتراك في تحديد هذه العلاقة مع الأميركيين بلازمة تسليم الداعية فتح الله غولن الذي تتهمه تركيا بتدبير الانقلاب.
هذه واحدة من الأسباب التي جعلت أردوغان يذهب إلى روسيا، إلى جانب بطبيعة الحال تشنج العلاقات الأوروبية - التركية على خلفية موقف الأولى المتردد بدايةً والمراقب لما ستؤول إليه أحوال الانقلاب، واستتباع ذلك بعدم الرضا عن التعامل التركي مع تداعيات العملية الانقلابية الفاشلة وإعلان حالة الطوارئ وتعليق بعض التزاماته بموجب المعاهدة الأوروبية لحقوق الإنسان.
وحينما ذهبت أنقرة إلى حد إعادة النظر باحتمال تطبيق قانون الإعدام، استفز الاتحاد الأوروبي وهدّد رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر بوقف مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي في حال طبقت بالفعل قانون الإعدام في البلاد.
هذه مجموعة من العوامل التي دفعت أردوغان للذهاب إلى روسيا والحديث عن إعادة العلاقات الطبيعية بين البلدين، يشمل ذلك العلاقات الاقتصادية والسياحية التي تأثرت نتيجة القطيعة التي فعّلتها موسكو بعد حادثة إسقاط الطائرة الحربية.
لقد سعى كل من بوتين وأردوغان إلى تجنب القضايا الخلافية مثل استحضار موضوع تعويض أسر ضحايا الطائرة الروسية، حيث جرى لقاء القمة في قصر قسطنطين وتناول مشروعات الطاقة والاستثمارات والتبادل التجاري والتعاون السياحي، بالإضافة إلى التعاون الدفاعي.
أكثر ما كان يهم أردوغان هو الشأن الاقتصادي وعودة الدفق السياحي الروسي إلى تركيا كما كان حاله في السابق، وتسريع البناء في مشروعين حيويين هما محطة "أكويو" الكهروذرية ومشروع السيل التركي، هذا بطبيعة الحال إلى جانب شكره الرئيس بوتين على دعمه أنقرة حين كان يباغتها الانقلابيون.
فيما يتعلق بالأزمة السورية فإن الكل يعلم أن تركيا لها موقف مختلف تماماً عن الموقف الروسي في النظر إلى هذه الأزمة ومعالجتها، غير أن تركيا التي باتت تنظر إلى تكريس سياسة "تقليل الأعداء وتكثير الأصدقاء" التي أطلقها بن علي يلدريم رئيس الوزراء التركي، قد تستهدف تحسين علاقاتها بدول الجوار مثل العراق وسورية.
الملف السوري جرى نقاشه بين وزيري خارجية البلدين، حيث أكد مولود جاويش أوغلو وزير الخارجية التركي أن بلاده تعمل مع موسكو على بناء آلية قوية حول سورية.
وعلى ما يبدو أن التوافقين التركي والروسي قد يصبان في ثلاثة موضوعات تتصل بالتعاون من أجل محاربة الإرهاب، وإيصال المساعدات الإنسانية، فضلاً عن استكمال المسار السياسي، أما فيما يتعلق بالموقف التركي من الرئيس السوري بشار الأسد فمن المستبعد أن يتغير هذا الموقف على الأقل في هذه الأوقات.
زيارة أردوغان إلى موسكو جاءت من أجل إبلاغ موقف أنقرة المعترض على السياسات الأميركية والأوروبية إزاءها، وأن المطلوب من واشنطن والاتحاد الأوروبي أن لا يُفشِلوا علاقتهم بتركيا.
إن ما تريده تركيا من واشنطن هو تسليمها الداعية فتح الله غولن وإعادة النظر في الملف الكردي لجهة وقف دعم الإدارة الأميركية حزب العمال الكردستاني في العراق وسورية، وبخصوص موقفها من أوروبا فإنها ترغب في انتزاع موافقتهم بشأن إعفاء الأتراك من "الشنغن" وإضفاء الجدية على طلب عضوية تركيا للاتحاد الأوروبي.
خلاصة القول في هذا المقام إن العلاقات التركية مع واشنطن وأوروبا لن تسوء أكثر مما هي عليه الآن، وستشهد أخذاً ورداً في قضايا خلافية إلى حين تسويتها، فمن الصعب أن تفرط واشنطن وأوروبا في علاقاتهما مع تركيا، وكذلك الحال بالنسبة للأخيرة.
أما بخصوص العلاقات التركية - الروسية، فقد تعود كما كانت سابقاً وأفضل بقليل، علاقة المصالح المشتركة والتعاون المستمر، لكنها ربما لن ترتقي إلى علاقات استراتيجية كما هي حال علاقة أنقرة بواشنطن وأوروبا.
حالياً كل ما تركز عليه أنقرة هو الشأن الداخلي وطرق تحصينه لتجنب أي موجات سلبية أو ردات فعل داخلية على الإجراءات الحكومية ضد الانقلابيين، ولربما حين تنتهي حالة الطوارئ التي أُعلن عنها في الحادي والعشرين من تموز الماضي، فإن تركيا ستكون أكثر قدرة على المناورة في السياسة الخارجية.