أُعلن قبل شهرين عن اكتشاف أقدم مقبرة فلسطينية، قرب عسقلان، ما أثار الجدل من جديد حول أصول الفلسطينيين القدماء.. وقد حاولت الدعاية الإسرائيلية تصوير أصحاب الرفات بأنهم غزاة، بدائيون، هاجموا السكان المتحضرين (الإسرائيليين).. ولحسن الحظ، فإن للعلم والتاريخ ما يقولانه بهذا الشأن..
فقد ظهرت في الآونة الأخيرة العديد من الدراسات العلمية الحصيفة، التي تتناقض مع الرواية التوراتية، بل وتبين الكثير من الحقائق الصادمة والمفاجئة فيما يتعلق بتاريخ فلسطين، وعلاقة اليهود بها، وهذه الدراسات تطورت بشكل نوعي بدءاً من ثمانينيات القرن العشرين، مع تطور أدوات البحث والتحليل، ومع الاكتشافات الأثرية التي كانت في كل مرة تفنّد جزءًا من الرواية التوراتية، حتى أتت عليها كلها، خاصة بعد خيبة أمل علماء الآثار "التوراتيون" الذين عجزوا عن اكتشاف حجر واحد يسند روايتهم.
وقد رفض الكثير من العلماء الرواية التوراتية، باعتبارها مجرد سرد ملحمي أسطوري لقصص متخيلة؛ مثلا، "كيث وايتلام"، أستاذ الدراسات الدينية في جامعة "ستيرلينغ" في سكوتلاندا، اعتبر في كتابه "اختلاق إسرائيل القديمة"، أن الدوافع السياسية هي التي لعبت دورا حاسما في إعادة بناء الماضي المتخيل لإسرائيل القديمة، وأن الدراسات التوراتية اللاهوتية تورطت في عملية تزوير التاريخ لخلق جغرافيتها الخاصة ورؤيتها الخاصة.
عالم الآثار الأميركي "توماس طومسون"؛ أوضح في كتابه "التاريخ المبكر للشعب الإسرائيلي" أن مجمل التاريخ اليهودي يستند إلى قصص من صنع الخيال.
المفكر الفرنسي "روجيه جارودي" فنّد في كتابه "الأساطير المؤسسة" رواية اقتحام أريحا على يد "يوشع"، وبرهن على أن المدينة كانت قد دُمرت ثم هُجرت قبل الزمن المفترض للاقتحام بمئات السنين.
الباحث المصري "سيد القمني" تتبع أصول النبي إبراهيم ومسار رحلته، وبرهن في كتابه "إبراهيم والتاريخ المجهول" أنه ليس من أصل عربي، ولا علاقة له بالعبرانيين.
المؤرخ العراقي "أحمد سوسة"، في كتابه "العرب واليهود في التاريخ" أكد أن علم الآثار أسقط وإلى غير رجعة رواية "عصر الآباء"، وأثبت أن جميع الأنبياء والشخصيات الذين ورد ذكرهم في أسفار التوراة تحت مسمى عصر الآباء عاشوا وماتوا في العصر البرونزي الوسيط، أي قبل ظهور اليهودية بقرون.
والزج بأسمائهم يأتي في سياق المحاولات الدؤوبة التي عمد إليها محررو التوراة، في محاولة منهم لاختلاق أصول نبيلة لليهود، وابتكار تاريخ خاص بهم، ومن ثم إدماج تلك الشخصيات في التاريخ لإضفاء صبغة من القداسة عليه، وادعاء أسطورة الأرض الموعودة على لسانهم.
الباحث الفلسطيني "جودت السعد"، في كتابه "أوهام التاريخ اليهودي"، فند أسطورة عصر العبودية، وقصة الخروج من مصر والتيه، مبيّنا أن محرري التوراة بعد أن ابتكروا أصولا تاريخية لِـ "بني إسرائيل"، ادعوا أنهم عاشوا في مصر أربعة قرون متتالية، حافظوا خلالها على هويتهم المميزة، حتى جاء المخلّص "موسى" وفر بهم من مصر إلى سيناء، حسب قصة الخروج والتيه... وأكد "السعد" أن الشواهد والبيانات الأركيولوجية تنفي هذه الرواية في معظم أجزائها، وأنه لا يوجد خارج النص التوراتي أي شاهد تاريخي يمكن أن يدعمها؛ فجميع المصادر المصرية لا تذكر شيئا عن وجود إسرائيليين في مصر طوال الفترة ما بين دخول أبناء يعقوب وميلاد النبي موسى. ومن ناحية ثانية، فإن عائلة يعقوب التي أتت من فلسطين اندمجت في المجتمع المصري، والتوراة تتجاهل الحديث عن هذه الفترة.
وهو ما أكده المفكر السوري "فراس السواح" في كتابة "آرام دمشق وإسرائيل"، حيث فنّد قصة الخروج بالصيغة المذكورة في التوراة، مبيّنا أنها استحالة مطلقة؛ فالزمن المفترض لها يأتي في أوج قوة الأسرتين الثامنة عشرة والتاسعة عشرة، حيث كانت جميع بلاد الشام تحت القبضة الحديدية للفراعنة، والعدد الخيالي الذي ذكرته التوراة لبني إسرائيل في الخروج لا يمكن له أن يعبر البحر بين ليلة وضحاها دون أن يتمكن جنود الفرعون من اللحاق بهم، ولو استطاعوا العبور والتخفي فلن يستطيعوا النجاة من قسوة صحراء سيناء، وحتى لو نجوا فإن وصولهم إلى فلسطين سيجعلهم تحت قبضة القوات المصرية الموجودة أصلا هناك، ولو أن قصة الخروج حدثت فعلا، لوجدنا لها ذكرا في السجلات المصرية القديمة، إذْ لا يمكن للمصريين أن يغفلوا عن توثيق حدث بهذه الضخامة؛ وهم الذين كتبوا على مسلاتهم جميع انتصاراتهم وحروبهم الكبيرة والصغيرة!
وتدعي التوراة أن الإسرائيليين واصلوا مسيرهم من سيناء إلى فلسطين، واقتحموها بناءً على أوامر الرب، وأبادوا شعبها، وهناك عاشوا فترة سميت عهد القضاة.. وطالما أن قصة الخروج والتيه أصلا قصة خيالية، بالتالي فإن ما بني عليها لن يكون سوى مزيد من الخيال، كما أن الشواهد الأركيولوجية من الفترة الانتقالية بين عصري البرونز والحديد تنفي رواية سِفر القضاة وسِفر يوشع واقتحام كنعان، ذلك لأن نتائج التنقيب الأثري في مواقع المدن التي يدعي النص التوراتي تدميرها كأريحا وعاي، تظهر عدم تطابق تاريخ تدمير تلك المدن مع التاريخ المزعوم في أسفار التوراة.
كما بيّن "السواح" أن نتائج المسح الأركيولوجي الشامل للمنطقة التي قامت عليها فيما بعد مملكتا إسرائيل ويهوذا، تنفي إمكانية ظهور مجموعة إثنية جديدة في تلك الفترة المفترضة لعصر القضاة حتى نهاية القرن العاشر قبل الميلاد، وجميع المواقع في فلسطين تُظهِر استمرارية ثقافية محلية غير منقطعة فيما بين عصري البرونز والحديد، فجميع القرى في ذلك العصر كنعانية، وأنه حتى ذلك التاريخ لم تتوفر القاعدة السكانية اللازمة والأساس الاقتصادي لقيام مملكة قوية، فإضافة للفقر المدقع في منطقة السامرة، فإن منطقة يهوذا كانت خالية من السكان تقريبا آنذاك، أما القدس فقد كانت مجرد بلدة متواضعة لا تصلح لأن تكون عاصمة مملكة قوية.
يواصل "فراس السواح" تفكيك الرواية التوراتية بشأن مملكة داود وسليمان، والتي حسب التوراة، قامت في القدس، في القرن العاشر ق.م، ومثّلت العصر الذهبي للتاريخ اليهودي في فلسطين.. مبيناً أن نتائج المسح الأركيولوجي للمناطق الهضبية التي كانت نواة المملكة تنفي وجود قاعدة سكانية في هذه المناطق خلال القرن العاشر ق.م تسمح بقيام مثل هذه المملكة، فهي ليست مستبعدة تاريخيا فقط؛ إنما مستحيلة الوجود، ناهيك عن نتائج التنقيب الأثري في القدس نفسها التي أكدت أن المدينة كانت حينها مجرد بلدة متواضعة، يضاف إلى هذا عدم العثور على أي حجر أو أثر يدل على قيام هذه المملكة في يوم من الأيام.