اللعبة والشاعر:عن محمود درويش (1-2)

حسن خضر
حجم الخط

قلتُ لمحمود درويش: ما رأيك أن نلعب؟
قال صائد المفارقات بسخرية رشيقة وأنيقة: وهل نفعل الآن شيئاً غير أننا نلعب؟
في ذلك اليوم البعيد، افتتح محمود "جلسة" الصباح اليومية بقراءة مقطع من مقالة أطنب كاتبها الشاعر في مديحه. وكان في الصياغة ما أثار ارتيابه، وهو الماهر في قراءة ما بين، وتحت، السطور. ففي المقالة أكثر من محاولة مُبطّنة لاختلاس ضربة ما تحت الحزام.
وهذه حكاية يطول شرحها. فعلى مدار عقود تراكم لدى محمود درويش إحساسٌ أن بعض الشعراء يغارون منه. وكما فسّر في مناسبات مختلفة: يبدأ الموقف منه بحب عميق، وينقلب إلى كراهية، إذا شعر المعني أن أدواته لا تمكنه من نيل اعتراف يعتقد أنه جدير به. وبين ذلك البعض، كان مَنْ امتهنوا حرفة الشعر مِنْ الفلسطينيين الأقل مقاومة لغواية الغيرة، ومفاعيل الكراهية العجيبة في "مساج" ذوات تضخّمت. 
إحساسٌ كهذا ذاتي، تماماً، يصعب تحويله إلى مسطرة تُقاس عليها كل صلاته الإنسانية والثقافية الواسعة بالآخرين. ولكن الشواهد لم تعوزه في حالات كثيرة. وما فاقم الأمر أن مقالة ظهرت في الفترة نفسها، اتهمه كاتبها، بناء على نميمة سمعها من شاعر (أيضاً) بتجنيد ما أسماهم "حرّاساً ثقافيين" (بودي غاردز) للدفاع عنه، وحمايته من النقد. جرحت اتهامات كيدية كهذه محمود درويش، في سنواته الأخيرة، وآذته الصغائر. وكان يُعقّب، أحياناً، كمن يُحدّث نفسه: وما ذنبي، إذا كانوا شعراء رديئين، ولماذا لا يكون حظي سيئاً إلا مع الفلسطينيين؟ وعلى خلفية كهذه نشأ سؤال: "ما رأيك أن نلعب".
قدّمتُ للأمر بمرافعة "نظرية" مفادها أن السخرية سلاح صحي ومفيد في مقاومة البشاعة، والقبح، وانعدام الموهبة، وضيق الأفق، والنفاق. ودخلتُ في تفاصيل اللعبة، للتدليل على إمكانية العثور، في كل شيء، وفي مكان ما منه، على بعض تجليات الكوميديا السوداء. فمن أكثر المواقف سوءاً يمكن اجتراح أشياء جيّدة، كما قال طيّب الذكر ماوتسي تونغ، في كتابه الأحمر الصغير.
أما تفاصيل اللعبة فتتمثل في انتحال شخصية مستشرقة في أحد البلدان الإسكندنافية، تعد أطروحة دكتوراه عن الأدب الفلسطيني، وتطلب المشورة من الشاعر "المدّاح"، بالبريد الإلكتروني. "صفن" محمود، والتمعت عيناه بنزق تمرّن كثيراً على تعليمه فن الانضباط، أغوته، لبرهة من الوقت، فكرة اللعب وعلّق: وما الفائدة من إثبات تفاهة شخص ما؟ أنا أعرف أنه تافه، ولا يستحق كل هذا العناء. الخلاصة: تمنّع لفظياً، ولكن تعابير وجهه استمرأت اللعبة.
أنشأتُ، في مساء اليوم نفسه، حساباً إلكترونياً، باسم وهمي، ودبّجت رسالة للمعني بعربية ركيكة، لم تنج من أخطاء إملائية ونحوية، تمنحه فرصة الإحساس بالتفوّق اللغوي على المستشرقين (وهذه نقلة افتتاحية أولى) ذكرتُ فيها أن البلدان الإسكندنافية، للأسف، ضعيفة الصلة بالعالم العربي وثقافته، ولكن يتعاطف الكثير من الناس مع الفلسطينيين (نقلة ثانية، تمنح صاحبنا الإحساس بهدف في رصيده الوطني والشخصي حتى قبل أن تبدأ اللعبة)، وأشرتُ، في معرض التدليل على تعاطف كهذا، أن قصائد محمود درويش تحظى بشعبية واسعة (نقلة ثالثة، هي الطُعم).
 وأضفتُ: بالنسبة للباحثين فإن قصائد شاعر واحد لا تكفي لإجراء دراسة مقارنة بمعايير أكاديمية مقبولة (نقلة رابعة لإضفاء هيبة العِلم على الطُعم)، فلا يمكن لشاعر فرد، وإن كان كبيراً، إلا أن يكون نتاج بيئة وتقاليد شعرية تمتاز بالتعدد والغنى. فهناك، بالتأكيد، في الشعر الفلسطيني من لا يقلون أهمية عن درويش، ولا نعرفهم، للأسف، نتيجة ضعف صلاتنا الثقافية بفلسطين والعالم العربي، (الطُعم كاملاً).
 علاوة على تدبير، وتدوير، الطُعم، ثمة أكثر من ورقة رابحة، هنا، فالمسكوت عنه، سيّدُ النقلات والافتتاحيات، يتمثل في وهم واستيهام أن المستشرقة، التي تكتب بعربية رديئة، شابة إسكندنافية مفتونة بالفلسطينيين وشعرائهم، وما أدراك ما يفعل الخيال إذا حلّق ( بجناحي الشاعر، طبعاً، بصرف النظر عن شطارته في الطيران) وحط على واحدة من نساء الفايكنغ. وهذه ورقة أولى، تكسب، وحدها، في مَنْ يربح المليون، والثانية مَنْ يُقاوم غواية أن يحتل جانباً مرموقاً في أطروحة بلغة أجنبية؟
المهم، لم يتأخر رد الشاعر على جناح الطائر الإلكتروني الميمون. ففي اليوم التالي وصلت رسالته، لم يسأل كيف عثر "المستشرقون" على بريده الإلكتروني، ولا لماذا هو، بالذات (أسئلة كهذه تقلل من أهميته، التي يفترض أنها محسومة في العالم الإنس والجن، أو ينبغي على الأقل التظاهر بأمر كهذا)، ولم يطلب حتى معلومات مهنية وشخصية عن المستشرقة، ولا عن الأطروحة (فهذا يوحي بعدم الثقة، أو يمكن تأجيله إلى ما بعد بناء رأس جسر على حافة النهر، وربما لا تحظى معلومات كهذه بأدنى قدر من الاهتمام).
بدلاً من هذا كله، قال الشاعر إن الرسالة مفاجئة سعيدة، وأن ما جاء فيها حول غنى وتعددية المشهد الشعري في فلسطين ملاحظة دقيقة وصحيحة، وأن محمود درويش شاعر كبير، ولكن علاقاته الشخصية، في العالم العربي، والعالم (خاصة سنوات عيشه الطويلة في باريس) أسهمت في شهرته الواسعة، أحياناً، بأكثر مما تحتمل قصائده. (مع الرسالة قصائد جديدة لم تنشر بعد، خص بها الشاعر "صديقته" المستشرقة، وسيرة ذاتية "مهيبة" تضم قائمة بالمنشور، وندوات وأمسيات ومهرجانات في أماكن مختلفة، وهي فائضة عن الحاجة بالتأكيد).
الثلاثاء القادم نكمل، يا حسن البطل، الكلام عن اللعبة والشاعر، وعن محمود درويش.