حتى لا تغيب توصيات «ماس» في أدراج المسؤولين

عبد الناصر النجار
حجم الخط

الاقتصاد الفلسطيني يعاني، والمواطن يعلنها صريحةً: نحن موجوعون بوضع لا يمكننا الاستمرار فيه أو تحمّله إلى مدى طويل، فيما عشرات آلاف الخرّيجين يئنون تحت وطأة البطالة... .
نعم، الاحتلال سبب، ولكن لنعمل من أجل تحييد هذه "الشمّاعة" بفعلنا وقدرتنا الذاتية.
إذن، الكل موجوع، الموظف الملاحق بالديون، والتاجر الذي يشكو الكساد، والعامل الذي لا يجد فرصة عمل، والخرّيج الذي ذهبت أحلامه سدى، مَن السبب؟ وكيف؟ ولماذا أصبح جسدنا الاقتصادي شبه مفكك؟ ولا مستفيد من ذلك سوى قلة قليلة وحسب "الشطارة"!!!
معهد أبحاث السياسات الاقتصادية "ماس" في مؤتمره السنوي الذي عقد في رام الله الأربعاء الماضي، كان الوحيد ربما الذي وضع من خلال الدراسات البحثية - التي أعدها متخصصون في السياسات المالية والاقتصادية وخبراء في السوق والأكاديميا - مجموعة من التوصيات التي هي بمثابة علاجات لمجموعة أزمات اقتصادية نعاني منها منذ فترة طويلة. نحاول في بعض الأحيان إنكارها، أو التقليل من أهميتها، وفي أحيانٍ أخرى تناول العلاجات المسكّنة لتهدئة جسدنا الاقتصادي لفترة زمنية، لتعاود الأمراض الاقتصادية والمالية نهشه بقوة أكبر.
التوصيات العلاجية التي طرحها المؤتمر بعد تحضيرات استمرت نحو نصف عام يجب ألا تُغيّب في أدراج المسؤولين سواء في القطاع العام أو الخاص أو الأهلي، أو كل من هو صاحب قرار في هذا المجال.
وعلى الرغم من الحشد الكبير من ممثلي قطاعات الإنتاج الذين شاركوا في المؤتمر، فإن غياب بعض المؤسسات المهمة ما كان يجب أن يحصل، لأنها ربما المعنية أكثر بواقعنا الاقتصادي والمالي، وكيفية الخروج منه، وعلى رأسها وزارة المالية، التي لم تشارك في هذا المؤتمر، وهو الأهم لجهة التوصيات التي جاءت نتاج أبحاث علمية وليس "خراريف" كما في كثير من الورش أو المؤتمرات المموّلة.
المؤتمر دعا إلى استغلال الهوامش القانونية والفنية المتاحة في اتفاق باريس الاقتصادي، خاصة في ظلّ عجزنا عن تعديل أو إلغاء هذا الاتفاق، الذي ما زلنا ندفع ثمن كثير من نصوصه التي تساهم في إضعاف اقتصادنا الوطني، وهذا جزء من مسؤولية الحكومة، ما يعني إعادة مراجعة شاملة ومستفيضة من قانونيين وخبراء للاستفادة القصوى من إيجابيات الاتفاق، ومحاولة الابتعاد أو التقليل من السلبيات التي تضرب هيكلنا الاقتصادي والمالي جراءه.
توصية أخرى حول التسجيل القانوني للأراضي، وهي مشكلة قاتلة، سمٌ نتجرّعه منذ السيطرة التركية على فلسطين، والتي ساهمت وربما عن عمد في عدم التسجيل القانوني للأراضي، وتركت أجزاء كبيرة منها ضمن الشيوع أو أراضي الدولة، ثم في عهد الاستعمار البريطاني لم يتغير الوضع، ربما لأن الاستيطان اليهودي كان من مصلحته أن تظل الأمور كما هي عليه، ولم يتغير الوضع كثيراً في العهد الأردني، رغم انطلاق محاولة جادّة في نهاية الستينيات للتسجيل القانوني. الذي شمل بعض القرى في بعض المحافظات، ولكن الأغلبية لم يلحقها قطار التسجيل، فجاء الاحتلال الإسرائيلي الذي وضع يده على مساحات واسعة من الأراضي الفلسطينية لصالح الاستيطان من خلال الثغرات القانونية منذ العهد التركي.
مما لا شكّ فيه أن قصوراً كبيراً أدّى إلى انهيار في العملية التنموية سواء الزراعية أو غيرها بسبب عدم القدرة على الاستغلال المثالي لهذه الأراضي. ربما الأصعب هو عملية الاستيلاء المتواصلة والنهب لكثير من الأراضي التي ما زالت تحت الشيوع، من خلال عمليات النصب والاحتيال من "مافيات" أو حتى من متنفذين في السلطة، ولعلّ أكبر دليل على ذلك ما حصل ويحصل في أراضي محافظة بيت لحم وخاصة المملوكة لمغتربين فلسطينيين، أو مناطق ضواحي القدس التي استولى عليها أشخاص بطرق التفافية وغير قانونية، ثم أقاموا عليها مباني دمرت مفهوم التنمية المستدامة، في ظل صمت الجميع.
إذن، هذه التوصية هي من أهم ما جاء في المؤتمر لإعادة القطار الاقتصادي إلى سكته الصحيحة.
أما مناهج التعليم، فهي قصة بحاجة إلى بُعد نظر، بحيث يجب إعادة البحث في مجمل التعليم الأكاديمي وخاصة في المرحلة الثانوية أو الجامعية المتوسطة. لا يُعقل أن يظلّ الشعب الفلسطيني محشوراً في إطار التعليم الأكاديمي بعيداً عن التعليم المهني الذي هو أساس عملية التنمية الحقيقية وتطوير الاقتصاد.
في ألمانيا 25% من خرّيجي المدارس الثانوية يتوجهون للأكاديميا، بمعنى أن 75% يتوجهون إلى التعليم المهني، مشكلتنا في فلسطين وربما في الدول العربية هي النظرة الدونية إلى التعليم المهني، على اعتبار أنه اختصاص الطلبة الفاشلين وليس ذا قيمة في مفهومنا الثقافي والاجتماعي. والحقيقة معاكسة تماماً لهذه النظرة الدونية، لأن التطور التقني والعمالة الماهرة القادرة على البناء هي نتاج التعليم المهني.
ومن هذا المنطلق، لا بد من الأخذ بهذه التوصية بشكل سريع لأننا نحتاج فترة زمنية طويلة لإحداث التغيير المطلوب.
هناك قضايا أخرى لا يتسع المقال لذكرها رغم أهميتها، ومنها الأجور بحدّها الأدنى، ورفع كفاءة الإدارة العامة في الوظائف الحكومية التي يجب أن تخرج من مفهوم البطالة المقنّعة، إضافة إلى تشجيع الاستثمار وقطاع السياحة وغيرها.
هي توصيات بمثابة علاج حقيقي لا مسكّنات، إذا ما توحّد الجميع وصدقت النوايا، وبدأنا التنفيذ الفعلي لها. نستطيع القول: انطلقت الخطوة الأولى الحقيقية في مسار واقعي يقود إلى التغيير. أما إذا ماتت التوصيات في أدراج المسؤولين فهذا يعني قتلاً متعمّداً للاقتصاد الوطني!!!!