يُجمع معظم المراقبين على أن العالم العربي وصل إلى حالة يُرثى لها من التشرذم والضياع، وهي حقيقة إن دلت على شيء فعلى أن جامعة الدول العربية لم تحقق إنجازاً يذكر على الرغم من أنها تعد واحدة من أقدم المنظمات الإقليمية في العالم، إن لم تكن أقدمها على الإطلاق، وبالتالي فشلت في تحقيق أي من الأهداف التي سعت إلى تحقيقها على مدى ما يزيد على سبعين عاماً هي عمر الجامعة الآن. ولأن العديد من المتابعين للشأن العربي أصبحوا مقتنعين بأن جامعة الدول العربية باتت تشكل الآن عبئاً على العمل العربي المشترك، وليس إضافة له أو أداة لتطويره، فمن الطبيعي أن تطرح تساؤلات مشروعة حول جدوى هذه المنظمة ومدى قابليتها للاستمرار أو الاستبدال.
كان بعض الدول العربية قد تقدم خلال المشاورات التمهيدية التي سبقت التوقيع على ميثاق «جامعة الدول العربية» بمشروعات أكثر طموحاً، استهدفت إقامة اتحاد فيديرالي أو كونفيديرالي بين الدول العربية، غير أن حرص دول عربية أخرى على سيادتها واستقلالية قرارها أكثر من حرصها على العمل العربي المشترك أقنع معظم صناع القرار العرب في ذلك الوقت، بأنه ربما يكون من الأفضل لتلك المرحلة تبني «صيغة الحد الأدنى» بدلاً من «صيغة الحد الأقصى»، حرصاً على وجود إطار عربي جامع، ولتجنب ظهور محاور عربية متصارعة في ذلك الوقت. لذا أخذت «جامعة الدول العربية» عند الولادة شكلاً أقرب إلى «منتدى لتنسيق السياسات» بين دول ذات سيادة منه إلى منظمة دولية تتمتع بإرادة مستقلة وبسلطات وصلاحيات تمكنها من حمل الدول الأعضاء على الانصياع لإرادتها التي تعكس «الإرادة المشتركة» للدول الأعضاء وليس حاصل جمع إراداتهم المنفصلة!
من المعروف أن غلاة التيار القومي العربي لم يتحمسوا كثيراً لجامعة الدول العربية، لأنهم رأوا في تبني صيغة الحد الأدنى للعمل العربي المشترك تكريساً لواقع التجزئة العربية وليس خطوة متقدمة على طريق الوحدة السياسية الشاملة التي كانوا يتطلعون إليها، ومع ذلك فقد رأى كثيرون في إنشاء جامعة للدول العربية، حتى وفق صيغة الحد الأدنى، خطوة متقدمة تعكس حرص الحكومات العربية على التضامن العربي، على أمل أن تكون بمثابة نقطة انطلاق لتطوير العمل العربي المشترك في المستقبل وبأن تتبعها خطوات أكثر جسارة وتجاوباً مع تطلعات الشعوب العربية التي ترتبط في ما بينها بروابط ثقافية وتاريخية عميقة وتواجهها تحديات مشتركة عديدة. غير أن الممارسة الفعلية على أرض الواقع، والتي تواصلت لأكثر من 70 عاماً، أثبتت أن قيام جامعة الدول العربية ساعد على تكريس التجزئة في العالم العربي أكثر مما ساعد على تمهيد الطريق نحو وحدة عربية شاملة أو تكامل عربي فاعل. وتكفي مقارنة بسيطة بين التجربتين العربية والأوروبية للتوصل إلى هذه القناعة.
فرغم انتماء الشعوب الأوروبية إلى أصول عرقية متباينة، وتحدثها بألسنة ولهجات مختلفة، ودخولها في صراعات تاريخية وحروب طاحنة في ما بينها، فإنها تمكنت من إطلاق تجربة تكاملية مثيرة، بدأت بتأسيس الجماعة الأوروبية للفحم والصلب بين ست دول أوروبية غربية في مطلع خمسينات القرن الماضي، وراحت تواصل مسيرتها بثبات وفق عملية تدريجية ممنهجة ومخططة إلى أن تمكنت من استكمال مقومات وحدتها الاقتصادية الكاملة، قبل أن تشرع بعد ذلك في بناء وحدتها السياسية بقيام الاتحاد الأوروبي الذي أصبح يضم الآن 28 دولة من مختلف أنحاء القارة الأوروبية. صحيح أن هذا الاتحاد يواجه الآن مشكلات خطيرة تهدد مسيرته، خصوصاً بعد قرار الشعب البريطاني بالانسحاب، غير أن الإنجازات التكاملية التي حققتها التجربة الأوروبية هي من الضخامة بحيث لا يمكن مقارنتها مطلقاً بالنتائج الهزيلة التي حققتها التجربة العربية الأطول عمراً، والتي ظلت إلى ما قبل اندلاع ثورات «الربيع العربي» عاجزة حتى عن إقامة منطقة جمركية موحدة أو سوق عربية مشتركة. وإن دل ذلك على شيء، فإنما يدل على أن عمق الروابط التاريخية والثقافية والاجتماعية المشتركة ليس دائماً وبالضرورة العنصر الأهم والأكثر فاعلية في إنجاح المشاريع التكاملية أو الوحدوية.
حين تصبح «جامعة الدول العربية»، وهي المؤسسة المسؤولة ليس فقط عن حماية العمل العربي المشترك وإنما عن تطويره أيضاً، عاجزة عن حل أبسط الخلافات بين الدول الأعضاء، ناهيك بالدفاع عن أمن هذه الدول وسلامتها في مواجهة الأخطار الخارجية التي تهددها، فمن الطبيعي أن يصبح أي حديث عن الوحدة العربية أو عن التكامل العربي نوعاً من الترف الفكري. ولأنه سبق لجامعة الدول العربية أن تحدثت كثيراً عن إصلاح هياكلها الداخلية من دون أن تتمكن من إصلاح أي شيء، فمن الطبيعي أن يصبح الحديث مجدداً عن إصلاحها نوعاً من اللغو ومحاولة لبيع الأوهام. لذا تبدو الجامعة الآن جثة هامدة في نظر الكثيرين، لا يجرؤ أحد على اتخاذ قرار بدفنها على الرغم من قناعتهم بأن الدفن هو الحل.
يعتقد معظم المراقبين الآن أنه لم يعد لجامعة الدول العربية وجود إلا على الورق، أو في مكاتب الموظفين المتواجدين في مقرها ومكاتبها. ومع ذلك فإن إعلان وفاة الجامعة وتوقف نشاطها فعلياً سيكون بمثابة اعتراف رسمي بانهيار النظام الإقليمي العربي ومن ثم سيضع الدول الأعضاء أمام واحد من خيارين:
الخيار الأول: البحث عن نظام بديل، والأرجح في هذه الحالة أن يكون النظام المطلوب إقليمياً ودولياً في الظروف الراهنة هو نظام شرق أوسطي تشارك فيه إسرائيل، وهو ما يسعى إليه البعض بالفعل من وراء ستار.
الخيار الثاني: التحرر الكامل من قيود الالتحاق بأي إطار مؤسسي، عربياً كان أم شرق أوسطيٍ، وتصرف كل دولة عربية على حدة وفقاً لما تراه محققاً لمصالحها ومتلائماً مع ما يفرضه تطور الأوضاع الدولية والإقليمية.
وفي تقديري أن أياً من الخيارين لن يكون مقبولاً من جانب غالبية الدول العربية. فالخيار الأول يبدو جريئاً، وربما مندفعاً أكثر مما ينبغي، ومن ثم فقد يثير من المشكلات بأكثر مما يطرح من حلول. أما الخيار الثاني فمحفوف بدوره بالكثير من الأخطار، ربما لأنه يؤدي إلى اختفاء «الشماعة» التي تعلق عليها الأنظمة العربية أخطاءها، وهو ما لا ترحب به أو تسعى إليه معظم الأنظمة العربية. لذا يرجح أن تفضل معظم الدول الأعضاء في الجامعة العربية إبقاء الوضع الراهن على ما هو عليه وعدم الذهاب إلى حد إعلان وفاة الجامعة رسمياً. ولأن هذا الخيار الثالث لا يشكل بدوره، في تقديري على الأقل، حلاً مقبولاً، لأنه سيساعد على كسب بعض الوقت وبالتالي قد ينجح في تأجيل المشكلة لكنه لن يؤدي إلى حلها نهائياً ومن ثم سيصبح على المدى الطويل جزءاً من المشكلة وليس الحل.
ما العمل إذاً؟
أظن أن الخروج من المأزق الذي دخل فيه النظام الإقليمي العربي في الوقت الراهن يستدعي رؤية مبتكرة لتشكيل نواة لنظام جديد بديل، مع الإبقاء في الوقت ذاته على النظام القديم كما هو إلى أن يشتد عود النظام البديل ويصبح قادراً على أن يحل محل النظام القديم كلياً من دون خسائر تذكر. ولا يتسع المقام هنا لحديث تفصيلي عن طبيعة وآليات عمل النظام البديل الذي أقترحه، غير أن فكرته المحورية تتلخص في تشكيل مجموعة صغيرة من الدول العربية، يمكن أن نطلق عليها «المجموعة النواة»، تتوافر فيها سمات وخصائص معينة من حيث حجم الموارد البشرية والمادية وصدق رغبة قيادتها في إنقاذ النظام العربي من الانهيار من خلال آليات مشتركة لتحقيق التكامل في ما بينها في شكل تدريجي ومدروس، أهمها:
1- آلية لتسوية النزاعات بالطرق السلمية لها ذراعان، إحداهما سياسية – ديبلوماسية (مجلس مكون من قادة الدول الأعضاء يتمتع بثقل سياسي حقيقي)، والأخرى قضائية (محكمة عدل تتمتع بولاية إلزامية في حالات محددة).
2- آلية للأمن الجماعي، تتضمن جهازاً لصنع القرارات مزوداً بسلطات وصلاحيات واسعة تمكنه من التدخل في الحالات التي تتطلب توفير الحماية والأمن لكل الدول الأعضاء في مواجهة كل أنواع التهديدات والأخطار، ويكون تحت تصرفه ما يكفي من الموارد التي تمكنه من التدخل بفاعلية، بما في ذلك القوة العسكرية.
3- آلية للتكامل في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وفق خطة زمنية متدرجة وباستخدام الأدوات والوسائل التقليدية المتعارف عليها.
ربما يختلف الباحثون حول تسمية الدول المرشحة لتشكيل «المجموعة النواة» الأكثر قدرة واستعداداً لإنقاذ النظام العربي من الانهيار، وحول مدى توافر الإرادة السياسية المطلوبة للقيام بهذه المهمة القومية. ومع ذلك ففي العالم العربي دولتان يستحيل من دون مشاركة أي منهما تشكيل تلك المجموعة هما مصر والسعودية. ومن الضروري أن تكون العلاقات بين هذين البلدين الشقيقين على درجة من المتانة تسمح لهما ببدء حوار جاد حول قيادة هذه «المجموعة النواة».
عن الحياة اللندنية