بشكل مبسط؛ التعليم التحرري هو التعليم التشاركي، القائم على مشاركة كل من المعلم والمتعلم للوصول معاً إلى المعرفة دون إقصاء أو إلغاء أحدهما للآخر، بل باحترام إنسانية المتعلم وتقدير تجربته الحياتية وخبراته المتنوعة.
ويُعتبر البرازيلي "باولو فريري" (1997 - 1921) أحد أهم من تحدث عن التعليم التحرري، وله الفضل في إخراج بلاده من دائرة الفقر المدقع، وتخليصها من الأمية، ووضع الأسس العلمية التي نقلتها من دولة تتنازعها العصابات ومراكز القوى ومافيات المخدرات إلى دولة تقف في الصف الأول على مستوى العالم. ولم تنحصر أفكاره في بلده؛ فقد تبناها الكثير من دول العالم المتقدم.
رأى "فريري" في التعليم "وسيلة للثورة على الظلم"، و"طريقاً للحرية، ولتمكين المقهورين من مقدراتهم". لكنه اعتبر التعليم إما أن يكون "أداة للقهر"، أو "طاقة للتحرر".
وبذلك كشف عن منحى خطير قد يؤدي إليه التعليم، خاصة إذا استعملته الدولة لتكريس سلطتها وهيمنتها على الشعب.. وهذا النوع من التعليم (الخطير) سماه فريري «التعليم البنكي»، يقابله «التعليم التحرري»، الذي يطالب به.
في التعليم البنكي، المدرسة مثل الأحزاب السياسية والدينية، تقوم على إلغاء وتهميش الإنسان وهدر كرامته، بتعاملها معه بوصفه مجرد متلقٍّ سلبي، عليه أن ينفّذ ثم يناقش، والمشكلة أنه في التعليم البنكي نفذ ولا تناقش؛ لأن النص مقدّس، وأي خروج عنه مستنكَر، ويؤدي إلى الرسوب والفشل.
في التعليم البنكي يقوم المعلم بإيداع المعلومات التي تحتويها المقررات الجاهزة في عقول الطلبة، الذين سيقتصر دورهم على استيعاب تلك الإيداعات.
وهذا النمط التعليمي لا يخرِّج سوى قوالب مكررة من الطلبة، منسوخة عن بعضها، تسهم في تكريس الوضع القائم وتمديده، مهما كان هذا الوضع جائرا.
في التعليم البنكي يفترض المعلم أن الطلبة ليس لديهم أية معرفة أو خبرة، وبالتالي عليه أن ينقل إليهم المعرفة عن طريق الشرح؛ أي عليه أن يتكلم ويشرح، وعليهم أن يستمعوا إليه وينصتوا بخشوع، فهو الذي يودع المعرفة في عقولهم وعليهم أن يختزنوها، وهو الذي يسأل وعليهم أن يجيبوا، ما يعني أن التعليم عبارة عن علاقات تسلطية أحادية تتحرك من أعلى إلى أدنى.
وهذا بالضبط صورة مصغرة عن نمط العلاقات السياسية والاجتماعية في النظم الاستبدادية، وما تقوم به المدرسة هنا هو ترسيخ هذا النمط وإعادة إنتاجه.
التعليم البنكي يسعى إلى تجميل الواقع، وإخفاء عيوبه، أي بتزويره، وذلك باستخدام الأسطورة، واحتكار تفسير النصوص الدينية، لذلك يتجنب هذا النمط التعليمي الحوار، بينما التعليم التحرري يرفض الأسطورة، ويكشف الواقع على حقيقته؛ لذلك يشجع على الحوار.
التعليم البنكي ينظر للطلبة بوصفهم كائنات تستحق المساعدة، فلا يرى قدراتهم الخاصة، ولا يكتشف مواهبهم، وبذلك يحبطهم، ويخنق الخيال وروح التحدي والإبداع لديهم، ويطالبهم بالتكيف مع الواقع، والتسليم به كقدر، بينما التعليم التحرري يعترف بقدراتهم، ويحثهم على التفكير النقدي، وعدم التسليم بالشعارات الجاهزة، ويقنعهم بقدرتهم على إحداث التغيير.
يرتكز منهج "فريري" على «الحوار»؛ حيث يتبادل فيه المعلم والطالب أدوارهما، فيتعلم كل منهما من الآخر، ويصبح موضوع الحوار الذي يدور في الغالب حول أوضاع المتعلمين المقهورين الحياتية هو المدخل للتعليم.
ويؤكد "فريري" أن المعلم لا يجب أن يكون هو مصدر المعرفة الوحيد، وأن المعرفة عملية بحث وتقصٍ وتفكير، وليست تلقيناً، وأنه لا يوجد جهل مطلق أو حكمة مطلقة، أو حقيقة نهائية، وأن العالم في عملية تغير وتطور متجددة ودائمة، وليس وضعًا ثابتًا.
ويدعو "فريري" لمواجهة القهر والتسلط في المدرسة، عن طريق تنمية روح الاستقلالية لدى الطالب، واحترام ما لديه من معرفة؛ ويقول: "المعلم الذي لا يحترم فضول الطالب في تعبيراته الجمالية واللغوية، والذي يسخر منه، إنما ينتهك مبادئ أخلاقية أساسية للشروط الإنسانية".
ومع أهمية الحوار، إلا أن "فريري" لا يدعو إلى تقليص نشاط المعلم التدريسي ليصبح مجرد تداول الأسئلة، باسم حرية التعبير وتنمية روح البحث والفضول عند الطلبة؛ فالحاجة إلى الحوار لا تقلل بأي حال من الأحوال من الحاجة إلى الشرح والعرض الذي يقدمه المعلم من خلال فهمه ومعرفته بالموضوع، وإنما الأساس في هذه العملية هو أن يعرف كل من المعلم والطالب أن التساؤل المفتوح والتحدث والإصغاء والنقاش أساسها الاحترام المتبادل.
حظي فيريري بشهرة عالمية، رغم أن خليل السكاكيني (1878 - 1953) قدّم أطروحات تربوية تقدمية لا تقل أهمية عمّا قدمه "فيريري"، بل إنه سبقه إلى ذلك. فقد أسس "السكاكيني" مدرسته على احترام التلاميذ، ومنع العقاب البدني، وحفظ كرامتهم واحترام وعيهم، وتشجيعهم على المطالعة الحرة، ورفض المناهج التلقينية، التي رأى أنها تبلد الذهن وترهقه، ودعا إلى ضرورة الحوار والتفاعل الحي في الحصة.
وربط السكاكيني بين التعليم والمجتمع وقضايا الوطن؛ فكان بنفسه على صلة بالحركة الوطنية الفلسطينية منذ تأسيسها، غير بعيد من أنشطتها في التصدي للأخطار التي أخذت تتهدد البلاد، وكانت له آراؤه السياسية ومواقفه الفكرية، وآمن بضرورة خلق أجيال متعلمة واعية؛ لذلك، تعامل مع التلميذ باعتباره إنساناً جديراً بالاحترام، على المدرسة أن تعزز إحساسه بكرامته، وأن تمكنه من أن يكون له رأيه الحر من دون ضغوط، واقترح منهاجا مدرسيا جديدا منفتحا بديلاً عن المناهج التلقينية القديمة.
ولهذا الغرض أصدر دليلين للمعلم، فيهما إرشادات حول كيفية التدريس التفاعلي، وألف كتابه "الجديد في القراءة العربية"، الذي ضمنه كثيرًا من الأفكار النبيلة والراقية التي تثري عقل الطالب وتنمي حاسة الجمال لديه وترتقي بوجدانه.
وبيَّن أن الهدف من التعليم ليس مجرّد توفير معلومات؛ بل تشجيع الطلبة أن يتحوّلوا إلى أدباء وعلماء.
فبدلا من حفظ معادلات الرياضيات دعا لتعليم الطالب كيف يشتق المعادلة، وكيف يفككها، وبدلا من حفظ قصيدة، جعله يتذوقها، وإقناعه بتكامل المعرفة، وأن المدرسة تدريب على الحياة.
وكان يحث الأساتذة على إتاحة الفرصة للطلبة ليعبروا عن أنفسهم بحرية، وأن يفكروا دون خوف، ولو كسروا التابوهات، وعدم جعل الامتحانات أداة للتقييم، وعدم التركيز على تسجيل الحضور، والعلامات، فالطالب يأتي إلى المدرسة ليمارس سعادته وحريته.
يقول جلال الدين الرومي: "وراء الصواب والخطأ دوما توجد حديقة، لنلتقي فيها".
التعليم تُقرر تعليق الدوام في قرية برقة بنابلس لهذا السبب!
02 أكتوبر 2023