كل ما رافق وفاة بيريز وجنازته من انفعالات يبقى على المستوى الرمزي، فلا دلالة استراتيجية للحدث، الذي تزامن مع حدث آخر ينطوي على دلالات سياسية واستراتيجية بعيدة المدى، ويستحق أكثر من وقفة لما له من تداعيات على حاضر ومستقبل الفاعلين السياسيين في الشرق الأوسط.
المقصود، هنا، قانون "العدالة ضد رعاة الإرهاب"، الذي أقره مجلس الشيوخ الأميركي رغم معارضة الرئيس أوباما. ولم يتردد المعلّقون في أربعة أركان الأرض، في القول إن القانون يستهدف السعودية، ولم يفشلوا في التدليل على حقيقة أن في إقرار هذا القانون ما ينم عن هبوط أسهم السعوديين في سوق السياسة الأميركية.
والمُلاحظ أن المعلّقين العرب وصموا الحليف الأميركي بقلة الوفاء، كما اكتشف البعض صلة بين قلة وفاء الأميركيين والصفقة النووية مع إيران، بمعنى أن العم سام "باع" حليفه السعوي لكسب ود الإيرانيين. ولكن ما لم ينل حقه من التفكير والتدبير يتمثل في حقيقة أن هذا القانون، وغيره، لم يكن ممكناً، ولم يكن ليحظى بهذا القدر من التأييد في أعلى هيئات تشريعية في الولايات المتحدة لولا صعود الدواعش، واشتعال الجنون القيامي في العالم العربي، وموجة الإرهاب، باسم الإسلام، التي ضربت وتضرب العالم.
يمكن العودة، بالتأكيد، إلى هجمات الحادي عشر من سبتمبر (التي أجاز القانون للمتضررين من ذوي الضحايا، وغيرهم، مقاضاة الدولة والمواطنين السعوديين)، ولكن الحاسم في الأمر كان صعود الدواعش، ومدى وحقيقة وحجم صلة النسب الأيديولوجي بين القاعدة والدواعش، وبين هؤلاء والوهابية المهيمنة على الحقل الديني في السعودية. لن يتردد أحد، بطبيعة الحال، من الناطقين السعوديين، والعاملين في منابرهم الإعلامية، في القول إن القاعدة والدواعش يمثلون انحرافاً أيديولوجيا، وأن الوهابية بريئة، وأن السعودية نفسها عانت وتعاني من إرهاب القاعدة والدواعش.
وفي المقابل، لن يجد القائلون بصلة النسب الأيديولوجية صعوبة في التدليل عليها استناداً إلى النسبة الكبيرة للمشاركين السعوديين، مقارنة بجنسيات أخرى، سواء في هجمات الحادي عشر من سبتمبر، أو في الاحتلال الداعشي والقاعدي لمناطق واسعة في سورية والعراق واليمن وليبيا. ولن يجدوا، أيضاً، صعوبة في العثور عليها في المناهج التعليمية، والمنابر الإعلامية والدينية، والحياة العامة، في السعودية.
ولم يكن للنسبة الكبيرة، ولا المناهج والمنابر، أن تكون قرائن حاسمة، ولا حتى صعود الدواعش، لولا ما تنطوي عليه أيديولوجية الدواعش، وما أسفرت عنه، من عدمية وكراهية للإنسان، وتهديد للحضارة في أربعة أركان الأرض. فهي ليست حركة تحرر وطني، ولا ثورة على نظام مُستبد، ولا تسعى للاستقلال، أو تحقيق الديمقراطية، والمساواة بين البشر، بل تمارس التطهير الديني، وتسعى لإنشاء حكومة دينية في كل مكان استولت عليه.
وحتى هذا الجنون القيامي كان يمكن تجاهله، لو بقي محصوراً في الكتب، والفتاوى، وآمن به نفر من الهامشيين. فمثل هؤلاء يوجد ويعيش على هامش مجتمعات كثيرة. ولكن طريقة الدواعش في ترجمة استيهاماتهم هي التي قرعت ناقوس الخطر، بعدما انتبه ما لا يحصى من البشر إلى حقيقة أنها كانت في صميم الخطاب المُتداول، في وضح النهار، على مدار عقود، ولم تكن مجرّد تهويمات قيامية في مناطق صحراوية هامشية.
بمعنى آخر، عبادة الدواعش للموت، وتفننهم في القتل (الذي أصبح فعلاً من أفعال العبادة)، وكراهيتهم للنساء، ولغير أتباع أيديولوجيتهم من السنّة المسلمين، واستعلاؤهم الديني على غير المسلمين، وكراهيتهم للهويات القومية والمدنية، وإضفاء قداسة على التمييز بين البشر على أسس دينية، وإباحة الرق والسبي، والتطهير الديني، وتدمير المتاحف، والمكتبات، وكل منجزات حضارة الإنسان على مدار ألف عام، كلها من تجليات طريقتهم في ترجمة الاستيهام الأيديولوجي. وهذا ما لا يمكن التسامح معه، ولا غض النظر عنه من جانب كل أهل الأرض، على اختلاف هوياتهم الدينية والقومية، ونظمهم السياسية، وتجاربهم التاريخية.
وبهذا المعنى، يجابه الاستثناء السعودي تحدياً غير مسبوق. ففي مجرّد احتمال وجود صلة نسب أيديولوجية من نوع ما بين الوهابية، المهيمنة على الحقل الديني، والظاهرة الداعشية، وقبلها القاعدية، وفي مجرد إقرار قانون لمقاضاة رعاة الإرهاب (والسعودية، في ذهن أصحابه، على رأس القائمة) ما يعني أن الاستثناء نفسه أصبح اليوم عرضة للتساؤل، من جانب أقوياء في العالم، أكثر من أي وقت مضى. الأقوياء لا تعنيهم الحقيقة بما هي، بل بما ينبغي أن تكون.
المهم، أن التحدي غير المسبوق يأتي في ظل انخفاض أسعار النفط، واستنزاف الموارد، في حروب الصراع في اليمن وعليه، وفي سورية وعليها، ناهيك عن المجابهة "الباردة" مع إيران على جبهات مختلفة، هذا كله في ظل، وربما نتيجة، الانكفاء التدريجي للأميركيين من المنطقة. وهذا، أيضاً، ما يمكن التدليل على محاولات الحد من آثاره الاقتصادية السلبية في سلسلة متلاحقة من القوانين والإجراءات للحد من الإنفاق الحكومي العام، وفرض الضرائب، وتقليص الخدمات، ورفع الدعم. ولكل ما تقدّم ضرائب اجتماعية وسياسية بعيدة المدى.
لا نعرف التداعيات بعيدة المدى للقانون الأميركي، وما سيعقبه من قوانين في بلدان مختلفة، على السعودية، وعلى الوهابية هناك، وفي العالم العربي بشكل عام، ولكن نعرف، الآن، أن أحداً من المؤرخين، بعد زمن قد يطول أو يقصر، لن يتمكن، في سياق الكلام عن صعود الجنون القيامي وهزيمته، من تفادي الكلام عن جلسة مجلس الشيوخ الأميركي، للتصويت على القانون المذكور، بوصفها لحظة مفصلية في تاريخ عالم، يتشكّل في الشرق الأوسط، تحت الأنقاض، وفوق ألسنة اللهب.