مغزى التوسع الروسي

هاني عوكل
حجم الخط

إعلان روسيا اعتزامها إقامة قاعدة عسكرية بحرية دائمة في سورية، والتفكير الجدي في إعادة فتح قواعد عسكرية خارج التراب الروسي، لا يمكن أن يكون خبراً عادياً يمر مرور الكرام على قنوات التلفزيون أو بين نشرات الصحف والسلام ختام.
هذا الإعلان يحمل دلالات مهمة تتعلق بالموقف الروسي من النظام الدولي الحالي، والموقف الآخر المتعلق بالاحتكار الأميركي لهذا النظام والهيمنة على مقدرات العالم، فضلاً عن المناورات الدولية الغربية لإضعاف روسيا وإبقائها عند مستوى رد الفعل وليس الفعل.
الإعلان الروسي صدر عن نائب وزير الدفاع نيكولاي بانكوف، الذي قال: إن بلاده تهدف إلى توسيع القاعدة الجوية في طرطوس، يشمل ذلك اعتبارها قاعدة دائمة، كما كان حالها إبان فترة الاتحاد السوفياتي، الذي استخدم هذه القاعدة لضمان الوجود السوفياتي في الفضاء الشرق أوسطي خلال مرحلة الحرب الباردة مع الولايات المتحدة الأميركية.
بانكوف لم يتحدث فقط عن قاعدة طرطوس، التي يعتقد أنها ستتحول في المستقبل القريب إلى قاعدة يمكنها استقبال سفن حربية كبيرة، للتزود بالوقود ومعالجة الإصلاحات الفنية وغير ذلك، بالإضافة إلى وضع صواريخ دفاعية متطورة مثل منظومة "أس 300" الموجودة أصلاً، وأنظمة إلكترونية وصواريخ موجهة للغواصات.
نائب وزير الدفاع الروسي تحدث أيضاً عن نية موسكو دراسة فتح قواعد عسكرية في كوبا وفيتنام كانت موجودة إبان فترة الاتحاد السوفياتي، وهي لم تكن قواعد كثيرة قياساً بالقواعد الأميركية المنتشرة في حوالى 130 دولة، والتي تتجاوز 750 قاعدة، حسب تقديرات عسكرية مختلفة.
الهدف الروسي من إقامة مثل هذه القواعد يتعلق بأكثر من جانب، حيث أنه أولاً يعكس تطلع القيادة لاستعادة الدور الروسي كما كان أيام الاتحاد السوفياتي، خاصةً وأن موسكو تستنهض قدراتها السياسية والعسكرية اليوم، وتسعى إلى فرض وجودها على الساحة الدولية.
يستكمل هذا وجود رؤية بوتينية تتطلع إلى إعادة الاعتبار للقوة الروسية وإيجاد حالة من توازن القوى الدولي، وهذه الرؤية تستند إلى حالة من التوافق الوطني التي تدعم الرؤية البوتينية إزاء وجود روسيا قوية بمخالب وأنياب، تستطيع أن تناور وأن تضع حداً لمن يحاول إقصاءها عن مسرح التفاعلات الدولية.
ثانياً وعلى الصعيد الدولي، يلاحظ أن حدة التصعيد الغربي والخطاب الاستعلائي، خصوصاً في الملف الأوكراني، دفع روسيا لرفع السقف والرد على جملة من العقوبات الأميركية والأوروبية، إزاء تداعيات الموقف في أوكرانيا، وبعيد ضمها شبه جزيرة القرم في شهر آذار 2014.
لقد سعت واشنطن مع حلفائها الغربيين إلى تحجيم الموقف الروسي في أوكرانيا، ومحاولة تطويق موسكو جيواستراتيجياً، يستتبع ذلك تطويقها عسكرياً وإدامة جبهات النزاع المتوترة التي تشكل اشتباكاً غير مباشر بين الطرفين الأميركي والروسي، وإمداد هذه الجبهات بكل أسباب الاستمرار والإطالة كما حال الملفين الأوكراني والسوري.
الجانب الثالث له علاقة برغبة روسيا في تطوير دورها السياسي والعسكري، انسجاماً مع صعودها وامتلاكها قدرات تؤهلها لإشغال مساحة في النظام الدولي، فهي اليوم لم تعد تريد للولايات المتحدة أن تهيمن على الفضاء الدولي.
وروسيا ترى أن مجرد الانصياع لرغبات الولايات المتحدة والوقوف موقف المتفرج في العديد من الأحداث التي تشهدها دول العالم، ربما سيجعل موسكو الضحية التي سيأتيها الدور إن عاجلاً أم آجلاً، ولذلك تجد روسيا نفسها مضطرة تحت التهديد الأميركي وتحت تطلعات استعادة الدور في النظام الدولي، تقول: إنها تجد نفسها قادرة على المناورة ولعب أدوار تعكس حجمها على الأرض.
لهذه الأهداف ترى موسكو الحاجة إلى توسيع دورها العسكري في العالم، ذلك أن توسيع هذا الدور يؤدي بالضرورة إلى التأثير في أحداث جد مهمة والتفاعل معها بطريقة تحقق المصلحة الروسية العليا، ولذلك ربما ترى روسيا أن وجود قواعد عسكرية خارج التراب الروسي، غير أنه تهديد لواشنطن وكسر للاحتكار العسكري والسياسي، فإنه أيضاً بمثابة المؤشر القوى نحو المزاحمة على شكل النظام الدولي الجديد.
الآن تسعى روسيا إلى مفاتحة عدد من دول العالم بخصوص استئجار أراضي لإقامة قواعد عسكرية في مناطق متوزعة حول العالم، منها على سبيل المثال مصر وسيشيل ونيكاراغوا وسنغافورة وفنزويلا، وهي رسالة قوية للغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً أن روسيا اليوم ليست روسيا الأمس إبان حكم بوريس يلتسين.
لقد بدأت موسكو من سورية توسيع قاعدتها العسكرية، حيث تحصلت من مجلس الشيوخ الروسي قبل يومين، على قرار يقضي بنشر القوات الجوية الروسية في السماء السورية إلى أجل غير معلوم، يتزامن مع ذلك إرسالها ثلاثة سفن حربية إلى البحر المتوسط، واستعدادها لإرسال حاملة طائرات هناك.
مثل هذا الإجراء يعني بالتأكيد أن روسيا ليس لديها ما يمكن التنازل عنه في الملف السوري، وهي بذلك أرسلت تهديداً واضح اللهجة لواشنطن في حال فكرت بشن ضربات عسكرية تستهدف مواقع تابعة للجيش السوري أو طيارين روساً.
إن بوتين لم يعد يتطلع إلى مواجهة الولايات المتحدة في الملف السوري فقط، فهو ينوي توسيع قواعد الاشتباك غير المباشر وإنشاء قواعد عسكرية في دول قريبة من واشنطن، حيث أنه بذلك يريد تأكيد قوة روسيا وثقلها في الميزان الدولي، وأنها لا تستجيب لسياسات الإذلال والانصياع للإرادة الأميركية.
ويبدو أن روسيا بالفعل تجاوزت مسألة الإطاحة بها، إذ أريد لها أن تخضع لابتزاز وضغوطات تنال من عزيمتها الاقتصادية، غير أنها فاجأت الجميع بصمودها سواء في سورية أو أوكرانيا، أضف إلى ذلك أنها أوجدت بدائل للتخفيف من حدة الحصار الغربي الاقتصادي المفروض عليها، ثم إدارتها للنزاع في سورية بهذه اللهجة القوية، واستعراض العضلات العسكري بإبراز القدرات الصاروخية والفضائية، تعكس التطور الكبير الذي وصلت إليه موسكو في المجال العسكري، وهذا يرجح أن يكون لها دور قوي وفاعل في حاضر ومستقبل السياسة الدولية.
لقد تمكنت روسيا بالفعل من كسر احتكار القرار والهيمنة الأميركية في شؤون العالم، بدليل أن ملفين مهمين هما الملف السوري والأوكراني لم يحسما بعد، ولم تتمكن واشنطن في هاتين الحلبتين من إنهاء الدب الروسي لا بالضربة الأولى ولا الضربة الأخيرة.
الآن ربما سنشهد موقفاً روسياً يتحرك ويتجاوز الملفين السوري والأوكراني، نحو تهديد المصالح الأميركية في أكثر من ملعب دولي، وبالتالي علينا أن نكون جاهزين للوقوف على تحولات قد تطال شكل النظام الدولي، ويكفي أن نراقبه من الملف السوري.