تشكل كل مقالة أكتبها تحدياً صعباً لي، وكأني في كل مرة أبدأ من الصفر؛ كيف أنحت الشكل ليتلاءم مع المحتوى. مناسبة هذه المقالة ودوافعها، رسالة في منهجية الكتابة أرسلها لي من بيروت كاتب وباحث قدير، معروف أكثر مما هو مشهور. استفاض في شرح كيفية توصيل الأفكار وصقلها، بعد تخميرها وإعطائها ما تستحق، كل جديد ومفيد جدير أن يعرفه القارئ. بدءاً من كيفية تحديد العنوان بكثافة ودقة وشمولية؛ مروراً بعرض الأفكار مبوبة ومتسلسلة، وصولاً إلى الرأي والخاتمة. تحدث عن أسبقية الخبر والمعلومات على التقييم والموقف الذاتي. والنتيجة هي الحصول على نصٍ رشيق ومكتنز؛ فقرات موحدة الفكرة، تمنع الالتباس وتشتيت القارئ.
دفعتني الرسالة إلى الكتابة عن الكتابة؛ لأن بعض الفعاليات التي أحضرها والدعوات التي أتلقاها استدعت الحديث المتكرر والنقدي عن الكتابة النسوية. عن تجربة الكتابة بالمبدأ. عن عقبات النشر والتمييز سلباً أو إيجاباً ضد الكاتبات. فضاء الكتابة ودوافعها. لمن أكتب ومن يقرؤني؟ علاوة على تخصيص بعض وقتي إلى مقابلات إعلامية حول غير موضوع. لاقى كل ذلك استحساناً ومدحاً، ربما يكون مبالغاً فيه، بسبب روح المجاملة، وبالأساس المعايير المتواضعة السائدة في البلد؛ على ذمة الرسالة المنهجيّة.
ربما أنظر إلى احتفاء البعض بي ككاتبة، وليس الجميع بالتأكيد، على أنه موقف عاطفي؛ ارتباطاً بالحدث الجلل الذي رافق ممارستي للكتابة، التي صارت أسبوعية وثابتة، أعني الدور الذي لعبه استشهاد زوجي، في تفجيري داخلياً وتحفيز واستثارة قلمي، لتسجيل وقائع الفقد الجلل. هكذا بدأت حكايتي مع الكتابة والنشر. هكذا وضعت قدمي في بحر الكتابة الذي لا قرار له. والحق يقال، لعبت إدارة جريدة «الأيام» دوراً في تشجيعي على الكتابة، ومثابرتي عليها.
من وجهة نظري، فإني مثل جميع الكتّاب الذين يحترمون أنفسهم وقارئهم، وليس من هدف أهم من وصول الفكرة إلى القارئ بكامل مشهديتها، انطلاقاً من احترامي لعقل القارئ وبقدر احترامي لقلمي. أريد مقالة قادرة على تحريك عاطفة القارئ بصدقها ونزاهتها، وتؤثر على عقله بغناها واكتنازها ورشاقتها ودقتها. تخاطب القلب والعقل معاً طمعاً كريماً في وصولها ورسوخها بوجدانه. وجبة غذائية مفيدة للعقل، سهلة الهضم، في ظل شكوى الإعلام عموماً من تخمة وتنافس، بعضه صحي وصحيح، والآخر مَرَضي وفارغ ومراوغ.
لا بد أن حب الكتابة قد بدأ معي منذ الصغر، وتمثل ذلك بحب درس الإنشاء وانتظاره على أحر من الجمر. أيضاً الرغبة في ملاعبة الكلمات. نثر ثروتي من الكلمات الغريبة على سطح النص دون كثير اكتراث، كوضع المكسّرات على الطعام لأجل رفع قيمته الغذائية. التباهي بثروتي اللغوية واستعراضها ببراءة طفولية أمام زميلاتي ومعلماتي وأسرتي. كنت أنصرف للاهتمام بالشكل أكثر من المحتوى، حتى دقّت مديرة مدرستي المرحومة «فريزة البسطامي» جرس إنذار حول ضرورة الاهتمام بالمحتوى. أرقني ذلك ورفع إحساسي بضرورة البحث عن الكلمة المناسبة مرات ومرات، وأقلعت عن رشّ الكلام على سطح المقال، بل توظيفه في خدمة الفكرة والمحتوى.
الكَرْب، كانت الكلمة المفتاحية التي حركت انتباهي للمعاني وتدرجاتها، تحمُّل مسؤوليتها. كان أن استخدمت كلمة «الكرب» لوصف مشاعري مع قدوم فصل الشتاء، طمعاً في إبهار مديرتي رحمها الله، نيْل الثناء والتصفيق. وعوضاً عن ذلك، كان التأنيب في انتظاري؛ اعتبرتها مديرتي مشاعر مزيفة على طالبة الخامس الابتدائي، ليس من شأنها شراء كاز التدفئة أو كسوة الشتاء.
ما زلت أقرّ وأعترف بأني تلميذة في عالم الكتابة، لم أتلق الدروس والورش التثقيفية، لأستطيع حمل كنية مهنية؛ على الرغم من أن اللقب لا يهمني في شيء؛ بل إن الرسالة هي المبتغى والهدف. هذا ما أظن أنه أعطى لقلمي قيمة مضافة ونكهة؛ بصمة وهوية خاصة به. لقد سد بعض فراغ الكتابة النسوية التي تحتاجها النساء في المستويين الكادري والقاعدي، لناحية تمليكهن الموقف والوجهة التي قد تعينهن على تشكيل رأيهن. دون ادعاء، لكني أتوجه بكتاباتي ليس فقط للنساء، بل أيضاً للرجال في بلدي.
أختم بقول: الكتابة عِلم، كما هي موهبة تنبع من الداخل. الكتابة كمثل جميع المواهب، تحتاج اللحظة المناسبة التي تطلقها، والشرط العلمي الذي يجعل المبتدئ محترفاً، ولكل قاعدة استثناء. ذلك يقتضي استدراك: تُرى لماذا أحجم كل أصدقائي العاملين في المهنة عن تقديم النصيحة الفنية، وأفادوني بخبرتهم الغنية، إلى أن كان ذلك بعد عقود على تجربتي الكتابية، التي كانت ولا تزال تحتاج الصقل والنقد والتوجيه، وليس المجاملة فقط التي لا ضير فيها، لكنها ليست عالية الفائدة، كالنصيحة الصادقة والعميقة.