حول الدور المتنامي للفقهاء

عبد الغني سلامة
حجم الخط

انتهى العصر الذهبي للحضارة الإسلامية سريعا؛ فمع حلول القرن الثاني عشر كانت تحولات كبيرة في بنية الدولة والمجتمع الإسلامي قد بدأت تأخذ مداها كما هو محتّم لها؛ أي بناءً على المقدمات التي أخذت تتشكل في أكثر من مكان، في الأندلس أدت انتصارات المرابطين على ملوك الطوائف إلى إنهاء عصر التعددية والتسامح والتنوير.. في المشرق، مع استشراء الفساد وانهيار الدولة العباسية واحتدام الصراع بين الفاطميين والسلاجقة أدى ذلك إلى تفشي العصبية الدينية والمذهبية، وزيادة التطرف.. ومع توالي حملات الفرنجة، وغزو التتار، بات المسرح مهيئاً للعسكر والمماليك والأتراك لتولي الحُكم..
وهكذا، بعد عصر الإبداع والتنوير؛ الذي ظهر فيه المعتزلة والفلاسفة، وازدهرت فيه البحوث والترجمة والاختراعات والشعر والأدب.. بدأ عصر الفقهاء، والارتكاس العلمي والحضاري.. ومع أن تلك الردة الحضارية استغرقت وقتا طويلا، إلا أن الوزير السلجوقي «نظام الـمُلك»، كان له دور في هذا السياق؛ فقد دشّنَ المدارس النظامية، وهي مدارس فقهية تركز على الدروس الدينية على حساب البحث العلمي، وتستند إلى أسس مذهبية طائفية لمواجهة التيارات «غير السنية» التي كانت وقتها بصدد الانتشار، وتقوم فلسفتها على تأويل متشدد للفقه الإسلامي يركّز على النص، دون الجوهر، ويرفض المنهج المنطقي والعقلاني، وهو المنهج الذي سيدوم في الفترات اللاحقة.. وما كليات الشريعة الحالية إلا استمرار لها.
ومع هذا التغيير الكبير في شكل العلاقات الداخلية، واعتماد العقلية الأمنية والعسكرية فقط في بناء دفاعات السلطة ضد خصومها المحليين والخارجيين، تولد واقع فكري جديد، سيؤدي لانقلاب المشهد الثقافي الذي دام في القرنين السابقين، وسيبدأ تدريجيا بإلغاء إيجابيات تلك الفترة، وسيعمل على تفكيك أطروحاتها المعتدلة والعقلانية، تمهيداً للإطاحة بها، وسيبرز في هذه المرحلة الإشكالية والخطيرة الإمام الغزالي، ثم ابن تيمية وابن الجوزية.. بمعنى آخر، سيذهب وإلى غير رجعة عصر العلم والإبداع والفلسفة والتفكير النقدي ليحل محله عصر النقل والنصوص والحشو والعنعنة.. وسيبدأ الفقهاء بأخذ الدور الرئيس في المشهد الثقافي.
منذ ذلك الوقت، والفقهاء يساهمون في صياغة الوعي الجمعي، ويتحملون مسؤولية تقديم الإسلام بشكله الجديد والمختلف.. خاصة وأنهم وحدهم تقريبا، تفردوا بالساحة، وظلوا على صلة مباشرة بالناس. 
لا شك أن الفقه كان ضرورياً للإسلام خاصة في بداياته؛ لفهمه وشرحه وتقريبه من الناس، إلا أنه صار الوسيلة الأهم لبسط نفوذ السلطة، والأداة التي أنشأت «طبقة» رجال الدين، ثم حاد عن هدفه من تبسيط الدين إلى تعقيده، وخرج من مجاله في الأحكام الفقهية، إلى تغلغله في كل شيء بما في ذلك مجال السياسة والحكم.. وعندما وضع الأئمة الأربعة قواعد الفقه، كان ذلك منسجما مع ظروف عصرهم وأحوالهم.. لكنه توقف عند ذلك الزمن، وبات يتحكم في كل الأزمان التي تلته.. وصار الفقهاء من بعدهم مجرد حافظين للنصوص وناقلين لها.. وحتى في القضايا المستحدثة، فإنهم في فتاويهم يرتكزون على الأسس المتشددة التي وُضعت في زمن سابق وظرف مختلف.
اليوم، لا يتفق الفقهاء على حسم أية مسألة.. في البداية تميل أكثريتهم للتحريم، ثم يتراجعون عن فتواهم، بل ويصدرون فتوى معاكسة.. ما يضعف مصداقيتهم.. مثلاً، فيلم «الرسالة»، حرّمه «الأزهر» وحرّم تجسيد أية شخصية صحابية في أي عمل سينمائي، في مسلسل «عمر» (الذي أُنتج لهدف سياسي) ظهر كبار الصحابة دون اعتراض أحد!! في السعودية (معقل الوهابية) حرم فقهاؤها الراديو في البداية، كما حرموا التلفاز فيما بعد.. الأمر ذاته يتكرر كل مرة مع الاختراعات والاكتشافات العلمية الجديدة، في البداية تحارَب وتحرَّم، ثم لا يجد الفقهاء بُدا من التسليم بها، مثلا: الخلايا الجذعية، الاستنساخ، التبرع بالأعضاء، أطفال الأنابيب.. وكل ما في الأمر أن هؤلاء الفقهاء أخّروا مسيرة العلم وأعاقوها لبعض الوقت (الفقهاء العثمانيون حرموا المطبعة لقرنين كاملين)، مع أن بعضهم ظل متمسكا بفتواه، فمثلا إلى الآن يحرم الوهابيون قيادة المرأة للسيارة! ويحرمون عليها ممارسة الرياضة والمشاركة في الحياة العامة.. كما يحرمون الموسيقى والفن والتصوير.. ما يعني أن الكثير من الفتاوى ليست صحيحة بالضرورة، بل أحيانا مناقضة للعقل والذوق السليم.
وإلى الآن الحديث عن الفقهاء الرسميين، أو الذين يوسمون بالاعتدال.. دون الحديث عن عشرات الفتاوى العجيبة، مثل رضاعة الكبير، وتحريم تقشير الخيار من قبل السيدات، وتحريم البوكيمون.. أو فتاوى طالبان والقاعدة بتحريم دخول المدارس للفتيات..
السؤال: لماذا نلجأ للفقهاء في أصغر الأشياء وأبسطها! ونقحمهم في أدق التفاصيل والخصوصيات! علماً أن الحديث النبوي الصحيح يقول: «استفتِ قلبك، ولو أفتاك الناس».. لماذا تلغي الناس عقولها، وتؤجرها للفقيه! وكيف يقبل طبيب أو مهندس أو عالم فيزياء أن يسلّم عقله وقلبه لخطيب الجمعة فيؤمن بكل ما يقوله، حتى لو كان قوله في صلب تخصصه! لماذا ننحاز لأي نص يقوله الفقيه ولو كان حديثا ضعيفا، أو خرافة، أو تناقض مع قوانين العلم، والمنطق! لماذا يجب استشارة المفتي في القضايا العلمية والصحية والفلكية المتخصصة؟
الإسلام دين بسيط وسهل، لكن الفقهاء صعّبوه.. الدين بجوهره علاقة مباشرة بين الإنسان وربه؛ علاقة مناجاة ودعاء وصلاة وحُب.. لكن وعاظ السلاطين حولوه إلى عصبيات طائفية، وجعلوه أداة للسلطة والتحكم.. الإسلام لا يوجد فيه كهنوت ورجال دين.. لكن الفقهاء، ومن أجل خلق دور مهم لهم، أوّلوه بالطريقة التي تعطيهم هذا الدور، وتمنحهم تلك المكانة الاجتماعية.. بعض الفقهاء حولوا الدين إلى تجارة، حيث تربح المحطات الدينية من وراء الإفتاء مبالغ طائلة، بتفننها في استغلال المشاهدين واللعب بأعصابهم وبمشاعرهم الدينية.
الدين يُسر وليس عسراً، وهناك عشرات القضايا التي قد تواجه المسلم، بعضها قد تحيّره، فإذا كانت من عظائم الأمور عليه أن يسأل من كان به خبيرا، أما الأمور العادية، فعليه أن «يستفتي قلبه»، على قاعدة أن الأصل في الأشياء الإباحة، وقلب المؤمن دليله وهاديه، وعقله بوصلته، فما استحسنه كان جميلا، وما استقبحه نأى عنه، وما اطمأنت إليه نفسه، ووجده عقله منطقيا، فهو الصواب، وما جافى ذلك ونفر منه، فهو مريب، والمؤمن من ترك ما يريبه إلى ما لا يريبه.
إذا أردنا التقدم؛ فإن الحضارات تقوم على أكتاف العلماء والمفكرين والمبدعين والمخترعين والفلاسفة والاقتصاديين.