يصعب فهم أحداث كثيرة عاشها ويعيشها العالم العربي، والشرق الأوسط، عموماً، دون العودة إلى النصف الأوّل من سبعينيات القرن الماضي. فهناك الصندوق الأسود، وهناك، أيضاً، زُرعت بذور الكثير مما نعاني حصاده المر هذه الأيام.
هذا ما يمكن التدليل عليه من خلال عدد هائل من الوثائق، والدراسات، بلغات مختلفة، التي تناولت تلك الفترة، ولم يُترجم منها إلى العربية إلا القليل، وغالباً بعد حذف المزعج والفاضح. وفي سياق كهذا، يبدو كتاب أندرو سكوت كوبر المعنون: "ملوك النفط: كيف غيّرت أميركا، وإيران، والسعودية، موازين القوى في الشرق الأوسط" الصادر بالإنكليزية في العام 2012، إضافة ضرورية تلقي مزيداً من الضوء على بعض محتويات الصندوق الأسود، وتُسهم في تفسير ما نحن فيه وعليه.
يبدو شاه إيران، كما يتجلى في كتاب كوبر، شخصية تراجيدية، تماماً. فقد كان مُدركاً لحقيقة أنه مدين بوجوده على العرش للأميركيين، الذين أعادوه إلى طهران، بعد الإطاحة بحكومة مُصدّق، في العام 1953. ومع ذلك، كان مسكوناً بأوهام إمبراطورية، ولم ير في نفسه مُجرّد بيدق صغير، أو تابع للأميركيين، فقد أراد إعادة إحياء مجد ونفوذ الإمبراطورية الفارسية القديم.
وقد تعززت تلك الأوهام، على نحو خاص في عهد نيكسون ـ كيسنجر في البيت الأبيض. فقد منحه الاثنان صكاً سرياً على بياض للحصول على ما يحتاج من أسلحة وخبراء وتكنولوجيا من الولايات المتحدة، على الرغم من معارضة وزارة الدفاع، ووجود قيود يفرضها الكونغرس، والقانون الأميركي، على مبيعات الأسلحة.
وفي هذا السياق اشترى أسلحة متطوّرة لا تحتاجها بلاده، ولم تكن مؤهلة، بما لديها من خبرات متواضعة في ذلك الوقت، لتشغليها واستيعابها، وراهن على تسديد أثمانها من عائدات النفط. وللوهلة الأولى، بدا الرهان صائباً خاصة بعد الحظر النفطي، في أعقاب حرب أكتوبر 1973، حين ارتفعت أسعار النفط، وتدفقت المليارات على الخزينة الإيرانية. وقد كانت تلك لحظة الصدام الأولى مع الأميركيين.
يوجد القليل، باللغة العربية، حول حقيقة الحظر النفطي، وارتفاع أسعار النفط في أواسط سبعينيات القرن الماضي. وثمة الكثير من الأساطير في هذا الشأن. والحقيقة، كما تتجلى في كتاب كوبر، أن شاه إيران كان المُحرّك الرئيس لرفع أسعار النفط. وقد جوبهت محاولاته في هذا الشأن بممانعة من جانب السعوديين، الذين هددوا بإغراق الأسواق الدولية، وقاوموا رفع أسعار النفط، تماشياً مع رغبة الأميركيين. وربما فعلوا ذلك خوفاً من بطش الأميركيين بهم.
كان بقاء الشاه على العرش مشروطاً بارتفاع أسعار النفط، لمضاعفة العائدات المالية، وتسديد أثمان الأسلحة، والإنفاق على برنامج التحديث العسكري والاقتصادي. وهذا لم يحدث. وكانت تلك بداية انهيار النظام الشاهنشاهي، في ظل التضخّم، وارتفاع معدلات البطالة، والفقر، وإفلاس العديد من المشاريع الاقتصادية، والتنموية، التي لم يعد لدى الخزينة العامة ما يكفي للإنفاق عليها.
كان الوضع الاستراتيجي للأميركيين، في السنوات القليلة التي أعقبت حرب أكتوبر، كارثياً، لا في الشرق الأوسط وحسب، بل وفي العالم، أيضاً. فقد تكبدوا هزيمة مدوية في فيتنام، وبدا المعسكر السوفياتي في حالة صعود، وأسهم ارتفاع أسعار النفط في زعزعة الاستقرار السياسي والاجتماعي في الولايات المتحدة نفسها، وفي أوروبا، التي بدت بلدان فيها كإيطاليا واليونان والبرتغال مرشحة لصعود الشيوعيين واليساريين إلى سدة الحكم، وهذا يعني أن فرنسا وإسبانيا لن تتمكنا من الصمود أمام الموجة الراديكالية. وهذا يعني، أيضاً، في المحصلة النهائية، ضمان فوز السوفيات في سباق الحرب الباردة.
في ظل هذا التدهور الاستراتيجي تجلّت في أذهان البعض في وزارة الدفاع الأميركية، ومؤسسات أمنية مختلفة (هيمن عليها في ذلك الوقت مَنْ عرفوا لاحقاً بالمحافظين الجدد)، سيناريوهات من نوع احتلال منابع النفط في المنطقة الشرقية بالسعودية، بالتعاون مع إيران (رامسفيلد، الذي أصبح وزيراً للدفاع في عهد بوش الابن، وحرّض على احتلال العراق، كان أحد الداعمين لسيناريوهات الاحتلال)، وتقديم الكويت كجائزة ترضية لشاه إيران. وفي أسوأ الأحوال، فكّر بعض صنّاع السياسة الأميركيين، باحتلال دولة صغيرة مثل الإمارات لإثارة الذعر في نفوس بقية "الشيوخ"، كما جاء في وثائق سرية تعود إلى تلك الفترة. وكانت لدى الشاه، بدوره، تصوّرات لاحتلال مناطق في السعودية.
ولكن هذا لم يحدث، فقد تمكن الأميركيون وحلفاؤهم الغربيون من عبور ضائقة ارتفاع الأسعار بعد انهيار الحظر، والنجاح في تطويع منظمة "أوبك"، والحيلولة دون الصعود الكارثي لأسعار النفط. وتثبيت الوضع السياسي والاقتصادي في أوروبا. والمهم، أن التحالف الاستراتيجي بين الأميركيين والسعوديين، وتمكين السعودية من دور أكبر في العالم العربي، والشرق الأوسط، بدأ في تلك الفترة، كما يقول كوبر. والمهم أن بذور العولمة الاقتصادية، التي نعرفها اليوم، زُرعت في تلك الفترة، أيضاً.
وبالنسبة للشاه، الذي أصبح ضحية قدر إغريقي بعد فشله في رفع الأسعار، والإنفاق على برامجه العسكرية والتنموية، وخروج نيكسون من الرئاسة، مجللاً بعار فضيحة ووتر غيت، وفقدان التعهدات السرية الأميركية لقيمتها، وتنكّر حتى كيسنجر أهم حمايته، وأهم المدافعين عنه في البيت الأبيض. انهارت الأحلام والأوهام الإمبراطورية، وانفتح الباب على مصراعيه أمام الثورة القادمة.
وتبقى ملاحظة أخيرة: لو قُدّر لي اختيار عنوان بديل لكتاب كوبر لكان التالي: "كيف دمّر النفط والأميركيون الشرق الأوسط".