عرفات الحكاية الفلسطينية التي يكتمل بها كل فلسطيني، الحكاية التي يكون كل فلسطيني ولد بعد عرفات جزءاً منها، والتي لا تكتمل بالنسبة له إلا حين يروي ذلك الجزء الخاص به.
إنه الجزء الذي يرتبط به خلال لحظة جمعته مع عرفات أو صورة التقطت في مناسبة ما، أو موقف حدث معه وكان عرفات طرفاً ولو خفياً فيه.
لكل فلسطيني جزء من الحكاية، ولكل فلسطيني جزء من عرفات، وكل فلسطيني جزء من حكاية عرفات الكبيرة، وكل منهم له جزؤه الخاص عن تلك الحكاية.
فكل فلسطيني يشعر أن عرفات خاص به وحده، لأن هذا الجزء من الحكاية هو أكثر ما يربطه بهذا النهر العظيم الذي سار في جبال الألم يشق طريق الحياة.
عرفات الذي يشبهنا، الذي يشبه كل واحد منا. تجده في مكان ما في ذاكرتنا، كأننا لا نصدق أنه رحل، ونظل نردد أغنية الحزن الأبدية على رحيله المفاجئ، كأننا كنا نتوقع أن يعيش للأبد.
يشبهنا عرفات كلنا ويشبه كل واحد منا. يشبه ذكرياتنا عن الألم والحزن والنكبة والتشرد والمنافي، ويشبه إصرارنا على النهوض مثل العنقاء ولعق الجراح والسير نحو فلسطين، ويشبه حلمنا في العودة والاستقلال، ويشبه إيماننا بأن النصر آتٍ لا محالة مهما اشتدت المحن وأن الدولة على مرمى حجر.
يمكن لأحفادنا بعد زمن طويل أن يظنوا أن عرفات أسطورة عليهم أن يؤمنوا بها حتى يكونوا فلسطينيين حقيقيين، ويمكن لأمهاتهم أن يسردن في الليل عليهم القصص التي لن يبتن يعرفن الحقيقة منها من الخيال عن الشاب الفلسطيني الأسمر الذي تلفح طوال حياته بالكوفية ونذر عمره للدفاع عن فلسطين، حكايات ما قبل النوم وهن ينثرن النوم على جفون أطفالهن.
وبين الخيال والحلم والحقيقة والمجاز سيظل عرفات أحد مراحل نضوج الأطفال في بحثهم عن كينونتهم.
وربما سينشغل المؤرخون وهم يبحثون في مراجعهم ووثائقهم عن الحكاية الحقيقية التي لم تعد ملكاً لأحد، لأن من سمات الكتابة عن رجال مثل عرفات أن تظل الحكاية البسيطة على طرف الأساطير التي تصاغ حولها، لكنها تظل المركز.
ويمكن لخصومه أن يتذكروا بين فينة وأخرى خلافاتهم معهم، وقد يستعيدون فصولاً طويلة من تلك الحياة السياسية التي عاشوها معه، بعضها كان شديد الوطأة عليهم، لكنهم سيشعرون بهذا الحنين الخفي ليس لعرفات فقط بل لكل تلك السنوات المريرة، لكن الممكنة، التي استطاع خلالها أن يجعل الخيمة الفلسطينية الواهنة التي يستظل تحتها الكل الفلسطيني أقوى من كل القلاع.
ويمكن لهم أيضاً أن يتذكروا كيف اختلفوا معه، وكيف كانوا في نهاية المطاف يسلمون بأنه – ربما سيقولون على علاته - الممكن الوحيد -، والحقيقة التي لا نقاش عليها في المعترك والموج الفلسطينيين.
لذا سيظلون ينشدون تلك الأيام بنجوى مترعة بالحنين ومشبعة بالتنهدات.
لأن الحكاية الحقيقية لا تستقيم دون هذا الحنين، ولأن غياب الشخصيات الأسطورية لا يتم أبداً في متون الحكايات، فهم حتى حين يغيبون، يعودون بين فينة وأخرى في سطر هنا أو آخر هناك، ولأن ميزة الشخصية في الأسطورة أنها حين تنتهي تبدأ فصلاً جديداً من فصول انبعاثها. الانبعاث في الذاكرة، والخلود في الحكاية الشعبية، والبقاء في التفاصيل اليومية.
فالشخصية في مثل تلك الحكايات لا تستقر على حكاية واحدة ولا على تفصيل واحد، إذ إنها سريعة التحول والتوالد الذاتي، ما يجعلها تستطيع أن تصمد عبر الزمن.
إنها الشخصية العابرة للزمن، إنه عرفات الذي وسم العصر والزمن الفلسطينيين باسمه، دون أن تخلو منه العصور القادمة.
لم يكن عرفات مجرد زعيم للشعب الفلسطيني أو رئيساً له. كان أول الحكاية. لم تبدأ الحكاية إلا معه، بدأ الأمل قبله، وأغرق الطوفان البلاد قبل مجيئه السياسي، ونُكبت فلسطين وهو شاب صغير، وظن الفلسطينيون أنهم تائهون، وأن أمواج النكبة أغرقتهم، وأن نجاتهم أمر مستحيل.
بل إنه بالكاد كان يشار إليهم بوصفهم فلسطينيين، بل مجرد لاجئين. أما المهم فليس إلا أحد الأضرار الجانبية لحروب بين جيوش أجنبية. لم يكونوا جزءاً حتى من حكاية الصراع في المنطقة. كانوا بائسين لا بد للمجتمع الدولي أن يوفر لهم قوت يومهم ويفتح لهم مدارس وعيادات.
نظرة الشفقة تلك التي وسمت السياسة الدولية تجاههم لزمن. وظلوا خارج متن السرد الحقيقي للصراع.
كأن أرضهم كانت بلا شعب، وكأن من كانوا على هذه الأرض وعمروها منذ الكنعاني الأول ليسوا إلا أشباحاً وظلالاً باهتة في لوحة لم تكن موجودة أصلاً.
حتى أن بطولاتهم العظيمة عن نضالهم وكفاحهم لصد الغزو والإحلال والاستيطان الصهيوني لم تكن جزءاً من تاريخ الحكاية وصار الحديث عن الجيوش المهزومة التي جاءت من البلدان الشقيقة وفشلت في منع الكارثة، أساس السرد. كأنه لم يكن يراد لهم أن ينظموا أنفسهم في جيش ومؤسسات ويقاتلوا دفاعاً عن أنفسهم.
لابد لهم أن يلتحقوا تحت ألوية الآخرين حتى يصير ذلك ممكناً.
كانوا كلمات غير واضحة المعالم في نص مجبول من طين الخيبة والهزائم.
إلى أن جاء عرفات واستطاع أن يقود دربهم في هذا التيه العظيم تحت راية خاصة بهم.
لم ينكر كل النضالات السابقة التي خاضها شعبه، ولم يبتدع عجلة جديدة، لكنه نادى بالروح الفلسطينية وبالهوية الخاصة لكل الفعل الكفاحي الفلسطيني.
عرفات استطاع أن يرتب البيت، واستطاع أن يضبط الصفوف، وسار في الطريق المحفوف بالمهالك وكان أول من وطئت قدماه أرض المعركة، ولم يفر يوماً، بل كان يعرف أن النهايات لا تأتي إلا في أوقاتها، لذا تحلى بهذا الإيمان العميق في الوقوف في وجه الخطر.
كانت تلك شجاعة نادرة، لكنها كانت واجبة حتى تكتمل الحكاية العرفاتية.