أكبر من صدمة وأعمق من انقلاب.
استطاع ترامب أن يهزم كل الاستطلاعات، واستطاع أن يتجاوز كل مفاعيل "الفضائح" التي قُذفت في وجهه أثناء الحملات الانتخابية، واستطاع بخطاب شعبوي بسيط أن يقنع "الناخبة" و"الناخب" الأميركي بأولوية لم تكن بالحسبان. هذه الأولوية هي التي حسمت الانتخابات كما أرى.
كيف يُمكن شرح هذه الأولوية؟
ببساطة كتلة كبيرة من الأميركيين ذهبت إلى الصناديق كان الجزء الأكبر منها مؤيداً لترامب في حالة استقطابية غير متوقعة كردة فعل على دعم "الأقليات" للمرشحة كلينتون. أي أن هذا الاستقطاب الجديد هو استقطاب عرقي في الواقع، وهو الذي حسم النتيجة.
ترامب بعد أن تجاوز العقبات الداخلية في الحزب الجمهوري وبعد أن ضمن لنفسه الانتصار على منافسيه (كل منافسيه) من الحزب الجمهوري أصبح هو الملك المتوّج على قواعد الحزب بغض النظر عن آراء بعض النخب فيه.. والاعتقاد السائد اليوم أن ترامب سيزيح هذه النخب من طريقه بعد أن حقق هذا الانتصار الساحق عليهم وعلى الحزب الديمقراطي.
وبهذا المعنى فإن ما يقال اليوم عن انشقاقات مؤكدة في صفوف الحزب الجمهوري هي ليست إلاّ إزاحة بعض النخب الجمهورية ليس إلاّ، وبالحسابات النهائية فإن اليمين المتطرف في الحزب الجمهوري سيتربع على هذا الحزب بأريحية غير مسبوقة.
كان الانشقاق مؤكداً ومحققاً، وكان سيكون عمودياً وليس فقط أفقياً لو خسر ترامب الانتخابات، أو لو خسر الجمهوريون مجلسيّ الشيوخ والنواب.
أما الآن فالزلزال الأميركي على مقياس ترامب قلب هذه المعادلة رأساً على عقب.
من الواضح أن هناك عوامل أخرى قد تكاملت وتضافرت مع عامل الاستقطاب "العرقي"، وخصوصاً الخطاب حول إعادة بعث أميركا العظمى، والوعود المكثفة لقطاعات الأعمال، والمواقف "الحازمة" في مواجهة الإرهاب، وحتى إعادة النظر في الكثير من الاتفاقيات الدولية، كلها عوامل ساعدت على تسويق خطاب ترامب عند قطاعات واسعة من المواطنين العاديين الذين سئموا من "التردد" الأميركي حيال الكثير من القضايا المحورية الداخلية والدولية.
شعر الأميركي العادي أن ترامب هو شخص عادي يشبهه وليس غريباً عنه كما حاولت وسائل الإعلام أن تصوّره. ترامب عرف ما هو مزاج الأميركي في حين عجز الحزب الديمقراطي عن "إدراك" هذا المزاج.
الملف الاقتصادي كان الأقرب إلى قلوب الأميركيين، والمزاج العام بعد ثماني سنوات من حكم الحزب الديمقراطي كان أقرب إلى ضرورة التغيير، ولم تكن "خبرة" ترامب السياسية هي مقياس الحكم الأول عليه، وهذه مسائل لم تؤخذ بحسبان وسائل الإعلام ولا بحسبان الحزب الديمقراطي.
لكن هناك عوامل أخرى لا يجرؤ الكثير من المتابعين على التحدث بها بصراحة.
عندما انتخب الشعب الأميركي الرئيس اوباما كان ذلك بمثابة انقلاب ثقافي كبير ولكن هذا الانقلاب ما كان ليحدث لولا أن جورج بوش الابن كان قد "ورّط" الولايات المتحدة في حروب عبثية، ولولا أنه قد "أفلس" الولايات المتحدة من خلال سياسات "بلهاء" بالمقياس الاقتصادي.
إذن، سطوة المحافظين الجدد في سياسة جورج بوش الابن هي التي مهّدت لذلك الانقلاب.
أمّا ترامب فقد نجح لأن الحزب الديمقراطي لم ينجز الكثير للشعب الأميركي، ولذلك اختار الناخب الأميركي التغيير بغض النظر عن بعض الحساسيات التي أثارتها شخصية ترامب والتي يتضاءل تأثيرها مع فهم الكثير من الوقائع التي لا يفهمها إلاّ العارفون بخبايا الأمور المؤثّرة في المزاج الأميركي.
لو أخذنا ـ على سبيل المثال ـ مسألة الهجرة والمهاجرين فماذا نجد؟ لقد ثبت في اليوم الأول لنجاح ترامب أن الجاليات اللاتينية لم تقف في معاداة ترامب، بل على العكس أثبتت نتائج فلوريدا ـ على سبيل المثال أن معظم ما زاد عمره على أربعين أو خمسين عاماً قد صوتّ لصالح ترامب، في حين من صوّت للحزب الديمقراطي هم الشباب في الغالب.
أي أن مقولة الجاليات والأقليات ستصبّ لصالح كلينتون لم تكن لا دقيقة ولا صحيحة، أيضاً.
ثم من قال: إن هذه الجاليات لها مصلحة في "الهجرة"؟ ومن قال: إنهم لا يشعرون "بخطر" الهجرة عليهم؟ تماماً كما هو "الخطر" على الأميركي الأبيض وحتى على الأميركي الأسود؟
أما السبب الأهم في هزيمة كلينتون والحزب الجمهوري ـ كما أرى ـ فهو ساندرز؟!
ما زلت عند الرأي القائل إن ظاهرة ساندرز هي واحدة من أهم وأخطر الظواهر التي شهدتها الولايات المتحدة والحزب الديمقراطي على مدى عقود كاملة.
لم يكن نجاح كلينتون ضد ساندرز قوياً ولا مدوّياً ومناصروه لم يعطوا أصواتهم لكلينتون في الكثير من الولايات بدليل أن الفرق بين أصوات الحزبين الجمهوري والديمقراطي في بعض الولايات كان أقل من الأصوات التي حصل عليها المرشح الثالث.
هذه الأصوات هي لليسار الأميركي، وهذه الأصوات هي لأنصار ساندرز، مجموع هذه الأصوات كان سيحدث فرقاً في هذه الانتخابات.
كان يُمكن للشعب الأميركي أن يُرجّح كفّة كلينتون حتى كمرأة لو أن أداء الحزب الديمقراطي كان مقنعاً تماماً، ولهذا فإن "الانقلاب" الثقافي في انتخاب امرأة كرئيس للولايات المتحدة قد تعذّر لغياب الإنجازات "الديمقراطية".
أما ترامب والشرق الأوسط فإن الزلزال الأميركي حياله أكبر من أن يُحشر في هذه المقالة، ذلك أن ارتدادات هذا الزلزال ستظهر في هذا الإقليم أكثر من أي منطقة في العالم وهذا موضوع للكتابة بحد ذاته.