بعد أن ننهي المدرسة بسنوات عديدة، نبدأ بتذكرها بنوع من الحنين للماضي، والكثير منا يعتبر أيام المدرسة أحلى مراحل عمره.. وفي الواقع نحن لا نتذكر منها سوى مشاهد معينة، غالبا تتعلق بأحداث طريفة، أو مشاكسات وقصص خاصة حدثت مع أحد المعلمين، أو مع المدير، أو بين الأصدقاء.. ونادرا ما نتذكر ما له علاقة بالتعليم نفسه، وإذا حصل ذلك فعلى الأرجح تكون ذكريات مريرة.. والسبب أننا كنا لا نحب المدرسة، وكنا ننتظر بلهفة أي مناسبة للتغيب.. الأمر الذي يتكرر مع كل الأجيال تقريبا.. المدرسة لا تمثل حالة جذب عاطفي للطالب، وهي ليست مكانا للإستمتاع والفرح.. الكتب المقررة لا تصلح للمطالعة الشيقة، جزء كبير من المعلومات التي تحتويها عبارة عن حشو لا داعي له، وحتى المعلومات المفيدة والضرورية تُقدم بطريقة مملة وجافة، لذلك؛ في نهاية كل عام دراسي يقوم الطلبة بتمزيق كتبهم ودفاترهم وهم في طريقهم للبيت.. وربما يمحون من ذاكرتهم كل ما درسوه طوال العام..
ورغم ذلك، في كل مدرسة تقريبا، أو في ذاكرة كل منا ثمة أستاذ واحد.. أستاذ تميز بكاريزما معينة، الطلبة يحبون شخصه، ويترقبون حصته، ويستمعون له باحترام، وهو عادة لا يضرب ولا يشتم، ولا يصرخ.. واثق من نفسه، ومن قدراته، وقد نجح في بناء علاقات صداقة مع طلبته، واعتاد أن يمازحهم، ويبادلهم القصص والطرائف والآراء، ويحاورهم ويستمع إليهم بإصغاء وبتواضع واحترام.. مقابل هذا الأستاذ يصطف بقية المعلمين، بنماذج متعددة من الشخصيات، ولكن بعقلية نمطية مكررة.. أغلبيتهم يعتقدون أن قوة الشخصية لا بد أن تقترن بالقسوة والصرامة والجدية، وأن الضحك والمزاح يفسدان جو الدراسة، فتكون الحصة ثقيلة، وحتى في استراحة الخمس دقائق بين الحصص يُفرض على الطلبة الانضباط والهدوء، ويعيَّن عليهم حارسا (عريف الصف)، وفي ساحة المدرسة يمنعون من الركض والشقاوة، وبعد انتهاء الدوام لا يُسمح لهم باللعب في ملاعب المدرسة.. وحتى حصص الرياضة والفن التي ينتظرونها بشغف كنوع من التغيير والخروج من حالة الجفاف والجدية، غالبا ما يتم الاعتداء عليها بكل خفة، فيقوم أي أستاذ متأخر في منهجه بالإستيلاء عليها.. وبعد العودة للبيت يمضون وقتا طويلا في حل الواجبات والتحضير لليوم التالي.. وهكذا يتم خنق جموح الطلبة، وكبت انفعالاتهم، وضبطهم وتنميط طرائق تفكيرهم، في هذا النظام الصارم..
وفي داخل هذا النظام، تأتي المناهج وطرق التدريس كأدوات مكملة لعملية إخضاع الطلبة وقتل روح التمرد فيهم، وجعلهم صورة مكررة عن المجتمع بكل ما يحمله من قيم ومفاهيم وعلاقات اقتصادية واجتماعية.. في المحتوى والمضمون؛ تقدَّم المعرفة والمعلومات المحددة سلفا إلى جانب منظومة القيم والأخلاق التي يسعى المجتمع (والنظام) لتكريسها، مع جرعات مخففة ولكن مستمرة من أيديولوجية وفلسفة النخب المسيطرة، وكل ما يثبت إمتيازاتهم، ويقضي على أي محاولة لزعزعة استقرارهم.. أما من حيث أشكال وأساليب تقديم تلك القيم والمعارف؛ فتتم عبر أسلوب التعليم التلقيني، الذي يقوي نزعة الامتثال التسليم، ويُضعِف روح التساؤل والبحث والفضول والشك، وطرح الأسئلة والنقد.. وبالتالي قتل روح الرفض والتمرد..
والتعليم التلقيني يعتمد على التفكير النمطي الأحادي، الذي لا يعرف إلا الثنائيات القاطعة: أبيض/ أسود.. فيطرح المعلم سؤالا من مثل: هل الفراولة فاكهة أم خضار؟ وبالطبع سيطالب بإجابة نموذجية، إجابة قاطعة بكلمة واحدة لا تحتمل التأويل. وهذا مستحيل؛ لأن الحقيقة المطلقة لا وجود لها في الواقع، كل ظاهرة تحتمل أكثر من تفسير، ولكل حقيقة وجهان على الأقل.. أي أن الحقيقة نسبية.. والإجابة النموذجية أيضا تقتل الخيال والاجتهاد عند الطالب..
والتعليم التلقيني يدفع العقل للربط بين الأشياء بطريقة تعسفية مبالغ فيها، فيظن البعض أنه إذا منحت الفتاة قدرا من الحرية فهذا سيفتح لها حتما المجال للإنحراف!! وإذا سمحت لابنك أن يمزح معك، سيؤدي ذلك إلى تمرده عليك، وعدم احترامه لك، وربما طردك من البيت حينما تكبر!! شطب دعاء دخول المرحاض من كتاب الصف الأول سينتهي بطالب لا يعرف دينه وينكر خالقه!! أي أن الأشياء لا تأخذ في أذهاننا حجمها الحقيقي، والمسلكيات لا تتخذ خطا ثابتا، ولا حتى متصاعدا بصورة متدرجة ومنضبطة، بل على هيئة كرة الثلج المتدحرجة، تبدأ صغيرة وتكبر بصورة انفجارية لا سيطرة لأحد عليها.. لذلك سيعتقد المعلم أن أن أي تهاون أو انفتاح على الطلبة سيؤدي إلى حالة من الفوضى، وفقدان السيطرة..
قد يظن البعض أن نتائج هذا النمط التربوي إنما تأتي تحصيل حاصل، ودون قصد.. والحقيقة أنها مقصودة تماما، فمنذ عصر الكتاتيب كان يتم إنتاج نخب متعلمة تفكر بنفس أسلوب الطبقة الحاكمة، وبالشكل الذي يخدمها.. ليس عندنا وحسب، بل وفي كل العالم.. خاصة الدول التي تحكمها أنظمة شمولية وأحزاب وعائلات حاكمة، أيضا أهم الجامعات الأميركية والأوروبية التي تخرج منها رؤساء الدول، وأعضاء الكونغرس، والنواب، والوزراء، وكبار الاقتصاديين... يتم فيها برمجة عقول طلبتها، وتنميطها، وتهيئتها لتكون امتدادا طبيعيا للنخب المسيطرة والحاكمة، لتعيد إنتاج ذاتها من جديد، وتعتمد في سبيل تحقيق ذلك أساليب عديدة، من بينها الإمتحانات، بحيث تبقي الطالب مرعوبا طوال سنين دراسته..
في البلدان العربية، لدينا المدارس الخاصة، التي تتولى عمليات برمجة عقول الطلبة بما يخدم توجهاتها، وهي إما مدارس تخرج وزراء وشخصيات دولة واقتصاديين.. وإما مدارس تخرج طلبة تخدم التوجهات الأيديولوجية لأصحابها، وخاصة المدارس الإسلامية، التي تهدف لإنشاء أجيال متشبعة بأفكارها الحزبية ولا تؤمن بشيء سواها.
وبما أن المعلمين (والأهالي) هم أصلا نتاج وضحايا هذا النظام التعليمي، فسيكونون حريصين على تجديده كل سنة.. ومحاربة أي حالة خروج عنه.. لهذه الأسباب ستقف القوى المحافظة بكل قوتها ضد أي محاولة لتغيير المناهج، أو تغيير وتطوير أسس العملية التعليمية، لأن ذلك سيقود في النهاية إلى إنتاج أجيال حرة، مستقلة بعقولها، متمردة بأرواحها، وثورية بطرق تفكيرها.. وهذا أكثر ما تخشاه النخب المسيطرة والمستفيدة من حالة التخلف.
التعليم يتمتع تاريخيا بسمعة حسنة، ويظن الناس أنه إيجابي دوما وبالضرورة؛ لكن الواقع يقول أن التعليم سلاح خطير، تستخدمه الدول لتكريس سيطرتها على الشعوب، من خلال إنتاج أجيال تكرر الواقع وتحافظ عليه، مهما كان فاسدا وظالما ومتخلفا.
صور : الإضراب الشامل يعم الضفة تنديدا باغتيال العاروري
03 يناير 2024