على الفصائل والقوى الفلسطينية أن تعرف أن الملاحظات النقدية والاتهامات التي تواجهها ليس على أدائها التاريخي في سياق عملية التحرر الوطني ولا تصل تلك الانتقادات حد التساؤل عن جدوى وجود الفصائل، بل إن كل الاتهامات هي وليدة اللحظة الآنية التي تتعلق بسوء الأداء الحالي والذي أوصل الحالة الفلسطينية إلى هذا القدر من الاختناق سواء للمشروع الوطني الذي تكفلت الفصائل بإنجاحه وتحقيق الاستقلال غير الناجز وكذلك اختناق المواطن الفلسطيني وانعدام خياراته في الحياة الكريمة وخصوصاً بعد أن حدثت استدارة أن يحكم الفلسطيني نفسه.
لا يمكن النيل من تاريخ الفصائل المرصع بصفحات من العز والمجد والتضحيات وبغض النظر صغيرها وكبيرها، ولا يمكن قراءة التاريخ الفلسطيني المفعم بالبطولة دون حضور هذه الفصائل التي جاءت كرد طبيعي على ضياع الأرض الفلسطينية ولم يكن لها هدف سوى استعادة هذه الأرض مهما بلغت التضحيات، انه تاريخ يستحق الاحترام بدءا من حركة فتح التي أشعلت عود ثقاب الثورة منتصف ستينيات القرن الماضي عندما فقد الفلسطينيون مجتمعهم المتماسك وتحولوا إلى مجموعات من اللاجئين في المدن والعواصم، كيف قرر ياسر عرفات أن لدى شعبنا من الإرادة ما يوازي قوة الترسانة الإسرائيلية وأكثر ما يكفي للانتصار عليها؟.
معجزة التحدي التي اشتقها الزعيم التاريخي وحركة فتح وسط عالم عربي متشح بالسواد التحق بها فصائل اليسار بسرعة لتشكل تنوعاً مهماً في إطار الكفاح الفلسطيني على النمط الفيتنامي الجيفاري وخطف الطائرات التي تميزت بها الجبهة الشعبية التي انطلقت في مثل هذا اليوم وكذلك الجبهة الديمقراطية ثم يلتحق بكل هؤلاء التيار الإسلامي ممثلاً بحركة الجهاد الإسلامي بكل هذا النقاء الثوري الذي رأينا ثم لاحقاً حركة حماس بكل هذا العنفوان الذي تجسد في العقود الأخيرة.
لا يمكن تصور أي مجتمع مدني بلا أحزاب وبالتالي فإن القوى الفلسطينية بما لها وما عليها هي تعبير طبيعي عن مجتمعها، وهنا علينا أن ندرك أن أداء الفصائل هو انعكاس طبيعي لمستوى وأداء شعبها وهي مرآة حقيقية لثقافته.
وهكذا نرى الأحزاب المتقدمة في المجتمعات المتقدمة والأحزاب البدائية في المجتمعات البدائية لذا فإن المطالبة أحياناً من قبل الغاضبين بإنهاء أو حل هذه الفصائل هي مطالبة لم تقرأ بعمق طبيعة الواقع الفلسطيني والمجتمع الفلسطيني، تلك المطالبات تنطق من أزمة نفس الفصائل، هي من ساهم بصناعتها وهنا السؤال هل هذه الفصائل التي صنعت كل هذا التاريخ المجيد هي نفسها من وضع الناس في هذا المأزق الشديد؟.
لا يمكن الحديث عن الأحزاب والقوى الفلسطينية وفقاً لما وضعه علماء الاجتماع السياسي ودارسو النخب في الغرب لأن تشكيل الفصائل ومسارها كان ينطلق من واقع له فرادته فلم يكن هناك مجتمع فلسطيني متماسك في ستينيات القرن الماضي ولم تأت الفصائل كنتاج لتطور مجتمع طبيعي بل كان مجتمعاً مشتتاً وكانت الفصائل ردة فعل على الاحتلال حيث نشأت الفصائل كأجنحة مسلحة في البدايات ثم أصبح لهذه الأجنحة قوة سياسية وما زالت الفصائل حتى اللحظة تعاني من أزمة التشكل تلك وبالمقابل نشأت حركة حماس كقوة اجتماعية بما يشبه الحزب السياسي ثم شكلت جناحها المسلح الذي أصبح له كلمة القول الفصل وبالتالي تعرضت لما تعرضت له الفصائل، هذا قد لعب دوراً في أداء الفصائل التي لم تعرف حتى اللحظة كيفية ممارسة العمل السياسي والتوافقات لأن العقل العسكري سواء لحظة التشكيل أو نتاج الظروف "كما حماس" هو من يتحكم بثقافة القوى الفلسطينية وهذا يحتاج الى دراسة أخرى.
أزمة البدايات لعبت دوراً كبيراً في تعثر الفصائل لحظة الانتقال إلى الحكم، فصائل لم تتشكل على أساس مدني وجدت نفسها فجأة تقود مجتمعاً مدنياً بلا تأهيل، وسبب هذا الارتباك أن الفصائل نفسها وخصوصاً حركتي فتح وحماس اللتين تديران الحكم في الضفة وغزة تحاولان القفز بين حزب التحرر والحزب المدني وهنا تداخلت عليهما المهمات بل وغالباً ما وجد كل منهما تعارضاً بين المهمتين، فالمقاومة والصواريخ بالنسبة لـ"حماس" تعني تدمير المقرات ومنع تقديم الخدمات كحزب مدني، وكذلك بالنسبة للسلطة وحركة فتح فإن تحدي إسرائيل ولو على المستوى الدولي يعني وقف الأموال ومنع تقديم الخدمات، بل إن الرغبة الملحة بالقيادة والخدمات تكبح أحياناً الأداء التحرري ووسط هذه المعادلة الصعبة تتحرك الفصائل.
لذا فإن النتيجة التي أمامنا هي فشل في عملية التحرر، رغم كل هذا الأداء والفاتورة العالية التي قدمتها الفصائل والشعب مازلنا تحت الاحتلال، وفشل مقابل في تحقيق حياة كريمة للمواطن، وسوء إدارة والمشهد هنا في غزة أكثر وضوحاً إذا باءت كل محاولات حركة حماس برفع الحصار وتحقيق الحد الأدنى من حاجات المواطن كالكهرباء والتنقل والسفر بالفشل وكذلك على مستوى التحرر بدت بلا إنجازات تذكر.
وزير العمل وفي موسم احتفالات الفصائل في انطلاقتها يلقي بوجهها أرقاماً عن نسبة الفقر والبطالة بإحداث زلزال كبير تحت أقدام الفصائل فيما لو كنا مجتمعاً سوياً، إذ تشير الأرقام إلى وجود 400 ألف عاطل عن العمل وكذلك 230 ألف أسرة تحت خط الفقر هذا هو الأهم في سياق قراءة اللحظة بعيداً عن الشعارات وما أصاب الفصائل من انتفاخة أصبحت أكبر من الوطن ومن المواطن الذي يتضور جوعاً وألماً وقهراً.
النتيجة التي أمامنا تستدعي محاكمة الفصائل التي حولت مجتمعها إلى مجتمع متسول يعيش على الإعانات الشهرية واصبح محروماً من كل شيء. أما النتيجة الأبرز وهو أن الفصائل التي أخذت على عاتقها طرد الاحتلال وإقامة الدولة الموحدة قد وجهت ضربة كبيرة لوحدة الشعب ووحدة القضية ووحدة الأرض في نتيجة أخرى تدعو للرثاء، فقد اقتتلت الفصائل التي وضع الشعب أمله عليها بإقامة دولته، اقتتلت على السلطة وأدت إلى هذا الانشطار المأساوي والذي لا يبدو في الأفق أنه عابر أو مؤقت وهنا السؤال لماذا فعلت "حماس" كل هذا وأدت إلى سلخ غزة وما هي النتيجة بعد عشر سنوات؟
لذا فإن الأولى للفصائل في ذكرى انطلاقتها أن تتوقف أمام تاريخها الطويل بحلوه ومره .. بإنجازاته وإخفاقاته .. بما حققت وأين فشلت، هل تقدمت أم تراجعت، هل البرنامج كفيل بالسير نحو هدف أم أنه ليس أكثر من محاولات؟، كل هذه الوقفة تستدعي مراجعة واقعية بعيداً عن الشعارات وبعيداً عن الوهم الذي تلبس الفصائل في العقود الأخيرة حتى كدنا نعتقد أننا قاب قوسين أو أدنى من الاستقلال لكن الأمر غير ذلك بل أن مشروعنا يشهد تراجعاً لا مثيل له، هذا التراجع لا يمكن تغطيته بالبلاغة وجمل الإنشاء والشعارات غير الواقعية.
من حق الفصائل أن تحتفل، أن تعيد تحشيد الناس لفكرة الاستقلال الذي دفعت ثمنه غالياً، ولكن من حق الناس الذين ساهموا بدفع جزء كبير من هذا الثمن أن يتساءلوا عن النتيجة وعن الإنجاز الذي لم يتحقق، من حق الناس الذين دفعوا ثمن مغامرات وحسابات خاطئة ودفعوا ثمن الصراع على السلطة وجوع البعض لها، كل هذا يستحق جردة حساب حقيقية وإلا فإن البشرى تكون هو أن مأساتنا ليست مؤقتة، وحينها نتأكد أن هذه القوى أصبحت في حالة انفصال عن الواقع وتصبح مطالبات الناس برحيل الفصائل هي مطالب أكثر واقعية من سلوك الفصائل، وهنا أزمة وطنية أكبر عندما يحدث هذا الشقاق بين الناس والقوى، عليها أن تنتبه، والقوى لا تقرأ سبب هذا الانفصال، قد تكون بحاجة إلى رجة انتخابية ومعاقبة شعبية وغير ذلك لا شيء يدعوها للمراجعة..!!