يخطئ كل من يعتقد أنه ليس هناك من فارق سياسي بين الجمهوريين والديمقراطيين الأميركيين، أو على الأقل يمكن القول، إن "مسح" الفارق، خاصة في السياسة الخارجية بين إدارتي الحزبين في البيت الأبيض، ليس دقيقاً، أو إنه من قبيل القراءة أو الموقف الأيديولوجي، فمن يقوم باستعراض لما اتبعته إدارات الحزبين خلال عقدين ونصف مضيا، على صعيد التعامل مع القضية الفلسطينية، ومجمل قضايا الشرق الأوسط، والعالم العربي، يجد فوارق أو فواصل، ربما تكون بالدرجة أكثر منها بالنوع، لكنها تظل فوارق في الكم، إلى أن يحدث الفارق في النوع.
تصادف مع انتهاء الحرب الباردة، بانهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي ومنظومة الدول الاشتراكية، أن ذلك كان بعد ولايتي الرئيس الجمهوري القوي والمتشدد رونالد ريغان خلال الفترة من 1980 _ 1988، والذي كان سبباً في تولي نائبه جورج بوش الأب الإدارة الأميركية في مناسبة نادرة _ نقصد _ استمرار الحزب الجمهوري في البيت الأبيض لولاية ثالثة تالية، وتصادف أن قاد جورج بوش ثلاثين دولة لشن حرب على العراق العام 1991، وكان ذلك سبباً في ظهور رأي عام عربي ضاغط، اتهم الولايات المتحدة بالكيل بمكيالين تجاه احتلال العراق للكويت العام 1990 واحتلال إسرائيل للأرض الفلسطينية والعربية منذ العام 1967، ما أجبر واشنطن على عقد مؤتمر مدريد العام 1992.
المصادفة التالية كانت في وصول الديمقراطيين للبيت الأبيض عبر بيل كلينتون، حيث وجد نفسه راعياً لاتفاق أوسلو _ واشنطن بين الفلسطينيين والإسرائيليين العام 1993، وفي الحقيقة إنه أمضى ولايتيه مانحاً أولوية للملف الفلسطيني / الإسرائيلي على دونه من ملفات الشرق الأوسط، وكان ذلك بالطبع لأن إسرائيل / اليسار هي من توصلت للاتفاق المذكور بنفسها، ودون ضغط أو إكراه من قبل أحد، ولا من الولايات المتحدة نفسها، فلم يكن الاتفاق ناجماً عن مسار مدريد _ واشنطن، بل كان ناجماً عن مسار مفاوضات سرية جرت بين الجانبين المعنيين في أوسلو عاصمة النرويج.
وبسبب من تقليد أميركي، فقد تولى إدارة البيت الأبيض، بعد الديمقراطي كلينتون، جورج بوش / الابن، خلال الفترة من 2000 _ 2008، حيث قام بتغيير بوصلة أولوية الاهتمام الأميركي في الشرق، من الملف الفلسطيني / الإسرائيلي إلى الملف العراقي، واكتفى بطرح ما سمي برؤية حل الدولتين، وكان ذلك رداً على المطالبة الفلسطينية بأن ينتهي التفاوض على الحل النهائي، بإقامة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران العام 1967، بعد أن فشلت المفاوضات في الالتزام بالتوصل للحل النهائي في غضون 5 سنوات بعد توقيع أوسلو أي في أيلول العام 1999.
ثم جاءت إدارة باراك أوباما الديمقراطي، ليبدأ بخطابه في جامعة القاهرة، العتيد، محاولاً عقد مصالحة مع العالم العربي / الإسلامي، وهو يدرك أن المدخل لذلك إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لأرض دولة فلسطين، وبذل جهداً مضنياً، لكنه اصطدم بترسخ اليمين الإسرائيلي في الحكم، الذي وقف كجدار صلب ضد محاولة التقدم في المفاوضات والتوصل إلى حل نهائي.
يمكن القول إذن، إن ولايتي جورج بوش الابن أنهتا ما تم إنجازه في عهد ولايتي بيل كلينتون، فيما يمكن النظر الآن إلى ولاية دونالد ترامب على أنها ستقوم بإجهاض ما قام به الديمقراطيون خلال ولايتيهم السابقتين وما قاموا باتباعه من سياسات خارجية.
صحيح أن ولايتي أوباما لم تجعلا من الملف الفلسطيني ملف الاهتمام الأول في المنطقة، بل من ملف فتح مجتمعات الشرق الأوسط / العربي، خاصة ما سمي بالربيع العربي، لذا فإن أغلب الظن أن إدارة الجمهوري دونالد ترامب، ستقوم بإغلاق هذا الملف، ولعل الروس الخبراء بالسياسة الخارجية الأميركية يدركون هذا الأمر جيداً، لذا قاموا بحسم الحرب داخل سورية، وإلى حد ما ليبيا، حتى يكونوا جاهزين لعقد صفقة حل سياسي في البلدين تكون لصالحهما، بعد أسابيع قليلة، وتحديداً بعد نحو شهر من الآن، أي بعد انتهاء احتفالات أعياد الميلاد ورأس السنة، وتسلم ترامب رسمياً إدارة البيت الأبيض.
على الأغلب لن يتوقف ترامب الجمهوري المتشدد جداً، عند حدود إغلاق الملف الفلسطيني / الإسرائيلي، خاصة في شقه التفاوضي، وعند حدود دعم وإسناد إسرائيل في عملية مضاعفة الاستيطان وتشريعه وحسب، بل لأول مرة منذ عقود تظهر إمكانية حقيقية لنقل السفارة الأميركية من تل أبيب للقدس المحتلة.
السؤال موجه هنا للجانب الفلسطيني بكل مستوياته، في السلطة والمعارضة والفصائل، هناك وهنا، وهو: ماذا أنتم فاعلون؟!
ونتوقع أن يكون الجواب بإنهاء الانقسام فوراً ورص الصفوف، والتوقف عن المناكفات الداخلية، والتوقف عن سفاسف الأمور، كذلك العودة إلى فتح الجسور مع كل الأشقاء العرب والدول الإسلامية وإطلاق مبادرة أن فلسطين توحد العرب والمسلمين، وهي الأولى بالانتصار لها، أي محاولة إغلاق المعارك الطائفية والداخلية على أنظمة الحكم في المنطقة، بعد إغلاق الصراع الداخلي، والتوحد ما أمكن من أجل توجيه كل الضغط تجاه إسرائيل، فأولاً وأخيراً، أثبتت السياسة الروسية وحتى الصينية أن النجوم الأميركية آخذة بالأفول، وأنها لم تعد قدراً على العالم، وأنه يمكن أن يفرض على واشنطن وتل أبيب ما لا ترغبان به وتتمنياه، وحتى في ظل الجمهوريين في البيت الأبيض واليمين المتطرف في الكنيست، يمكن إلحاق الهزيمة السياسية بأميركا وإسرائيل، حتى لو بالنقاط.