الإنسان ذلك المجهول

عبد الغني سلامة
حجم الخط

عندما حاول "ألكسي كاريل" أن يدرس الأبعاد الخفية للإنسان، وصَفَهُ بِـ "ذلك المجهول"، ولكنه، لو درس صفاته الفسيولوجية، فلن يسعه استخدام نفس المصطلح، لأن تركيبة أعضائه ووظائفها باتت معروفة، وعوضا عن ذلك يمكن أن يسميه "الإنسان ذلك الجهول"، خاصة إذا درس أخطاءه الشنيعة، وإذا تناول منجزاته الحضارية سيعرّفه بالعبقري، أما إذا تأمل إبداعاته سيصفه بالخلاّق، وإذا درس تاريخ الصراع سيعرفُهُ بالظالم، وإذا استعرض تاريخ وجوده على الأرض سيعرّفه بالمظلوم.
وقبل "كاريل" وبعده، تناولت كل أنواع العلوم الإنسانَ من جميع النواحي؛ بيْدَ أنها عجزت عن دراسته في كليّته وتعقيده بصورة شاملة؛ وبقي الإنسان في داخله سر دفين، وظل ذلك الكائن المجهول والمعقد والعصي على الفهم.
فالإنسان كلٌ لا يتجزأ، وليست هناك طريقة لفهمه في مجموعِه أو في أجزائه في وقت واحد؛ ولكي نحلله، فإننا مضطرون للاستعانة بفنون وعلوم مختلفة، ومن الطبيعي أن تصل كل هذه العلوم إلى آراء متباينة.
ويقول "كاريل": "إن جهلنا بأنفسنا لم ينشأ من صعوبة الحصول على المعلومات الضرورية، أو عدم دقتها؛ بل إنه راجع إلى وفرة هذه المعلومات وتشوّشها، بعد أن كدّستها الإنسانية عن نفسها خلال القرون الطويلة".
وأكثر ما يثير الغرابة في الإنسان - ويبدو طبيعيا في نفس الوقت – هو تمسكه الشديد بالحياة، رغم قسوتها، ورغم ما يراه فيها من ظلم وإذلال وخوف وقلق ومعاناة؛ فالبشر يسكنون في أماكن قاسية وغريبة: في الأسكيمو، في الغابات المطيرة، في الصحارى، في الجزر المعزولة في قلب المحيطات، في أكواخ الصفيح، وفي المقابر وتحت الجسور وفي كل مكان، تشبُّث في الحياة مهما كان نوعها وشكلها، والسبب أن إرادة الحياة كانت دوما تتفوق على الموت، وظلت عجلتها ماشية بلا توقف.
ولكن ما يميز الإنسان ليس فقط تشبثه بالحياة، بل عقله الحر الواعي... الذي جعله يبتكر أعقد النظريات، ويبدع أروع الأعمال في العلوم والآداب والفنون؛ ولو كان تفكيره غريزيا آلياً سكونياً، لظل ساكنا مثل مجتمعات النحل، ولو كان تفكيره مقيداً لما عرف البحث والتأمل، ولما أمضى الساعات متردداً في اتخاذ قرار ما، سواء كان خطيرا كإعلان الحرب، أو بسيطا كشرب الماء.. دماغ الإنسان هو المعمل الذي تجري فيه كل هذه العمليات المعقدة، وزنه كيلو وثلث فقط، ولكنه يستهلك ربع طاقة الجسم.
وإذا كان العقل يتردد في اتخاذ قرار ما، فإن النفس الإنسانية تتنقّل بين الحدّين الأقصى في التطرف، أي من قعر الرذيلة إلى ذروة الفضائل وقمة الأخلاق.
حيث نجد التناحر بين الميول والاتجاهات الخيّرة والميول الشريرة قابلاً للوصول لأقصى درجات التأزم، فقد يتحول الإنسان من مجرم منحط، إلى شخص ممتلئ بكل معاني الإنسانية، والعكس صحيح.
وبمقدار ما كان العقل نعمة للإنسان، كان نقمة ولعنة، فهو الذي أوجد العلم والفلسفة والدين والأخلاق والتكنولوجيا، ولكن الإنسان أساء استخدامها، فشنَّ باسم الدين الحروب واقترف المجازر، وارتكب باسم الأخلاق أبشع الفظاعات وأكثرها وحشية، وأساء استخدام العلم، فاخترع أشد الأسلحة فتكا، ودمّر بيئته وأفسدها.
ولكن الإنسان ليس عقلا فقط، فهناك العديد من العناصر الأخرى التي تؤلف بمجموعها الإنسان، وتشكل شخصيته: عاطفته، شغفه، مواهبه، ضميره، حنانه، أخلاقه... تلك السمات الخفية التي لا تميز الإنسان عن الحيوان فقط، بل تميز شخصاً عن آخر.
الحيوان، خلافاً للإنسان، تسيّره الغريزة فقط، فلا يشعر بالمسؤولية، ولا يحاكم نفسه على ما فعل، ليس لديه ميزان يفرق بين الخير والشر، وليس لديه ذوق يميز بين الجمال والقبح، ولا يتمتع بالحرية ليوازن بين الحق والباطل.
ولكن، ما هو هذا الإنسان الذي يطمح أن يصير إلها؟ والذي تُقعده خلية بكتيرية، ويصرعه فيروس مجهول، ليرتّب له موعداً أخيراً مع إلهه الأعلى، الحقيقي!!
كان "ديكارت" قد قسّم الإنسان إلى جسد وروح، وحاول أن يكتشف نقطة التقائهما معا، بينما قال فلاسفة آخرون إن الإنسان جسد ونفس وروح، وأضاف آخرون العقل.
وهكذا فصَل الفلاسفة مكونات الإنسان كل حسب مدرسته.
فيما اعتبر آخرون أن الإنسان بمجمله يتألف من ذرات وعناصر مادية على شكل أنسجة وأعصاب وخلايا.. تخضع جميعها لنظام كيميائي بالغ التعقيد والدقة، حتى أن الذكاء والاستجابات الحسية والانفعالات العاطفية والمواقف المختلفة والمزاج والشعور والأخلاق.. ما هي إلا صدى وانعكاس لبُنْيات وخلايا متركزة في الدماغ، تضيء وتطفئ وفق نظام معين.
وفي جانب يختلط به علم الباراسيكولوجي بالدجل والشعوذة، يعطي البعض تفسيرات متعددة للنفس والروح، منهم من يعتبرهما مادة، وآخرون يعتبرونهما طاقة، أو شيئا معنويا غامضا. ولكن ما هي الروح؟! كيف شكلها؟ أين توجد؟ أسئلة محيرة وإجابات غامضة، جعلت منها أعظم الألغاز وأصعبها.. الروح ببساطة شديدة سر الحياة، لأن الروح متى ما فارقت الجسد لا يبقى هناك حياة.
ولا وجود للروح خارج الجسد، فهما يقومان معا، ويذويان معا، متحدان بجوهرين مختلفين منذ أن اتحدت البويضة بحيوانها المنوي، أو بعد ذلك بقليل.
أو هي الشحنة الكهربائية (الطاقة) التي أوقدت شعلة الحياة، وهي الشرط اللازم لديمومتها، متى ما فرغت هذه الشحنة توقفت الحياة، وبالتالي، فإن الروح خصيصة لكل الكائنات الحية، وليست خاصة بالإنسان وحده.
وغالبا ما يود الإنسان أن يعيد صياغة نفسه على النحو الذي يشتهي، حتى ينسجم مع ذاته أكثر.. ولكنه لا يستطيع ذلك دون أن يكون حرا، ولا يمكنه صياغة نفسه دون أن يواجهها بشجاعة، ودون أن يتعذب.. فهذه المهمة تبدو سهلة عندما نوجّهها للخارج ونحاكم الآخرين، ولكنها بالغة الصعوبة عندما نوجّهها للداخل ونحاكم أنفسنا بما يجب، لأن الإنسان سيكون في هذه الحالة الصخرة والنحّات في آنٍ معاً.
خُلقنا من الطين، وبعد ملايين السنين من التطور، ما زال بداخلنا وحلٌ كثير!! ولكن الإنسان، بالحب وبالوعي، سيخلّص أعماقه من كل مخلفاته البدائية، ومن كل ما علق بها من أوحال الحداثة.. وبالأمل والفرح سيخلصها من أحزانها.. لأن الفرح هو سر الحياة، هو الترفع عن أذاها، والتعالي على مشاكلها، والابتسامة هي الجهد المتواضع الذي نبذله لننثر الأزهار في دروبنا، ونعصر المحبة من أشواك الكراهية، فالابتسامة الصادقة هي الاستغناء العفيف والجميل، وهي الشعور بالاكتفاء وبالرضا الداخلي.
ابتسامتنا، حتى لو كانت حزينة، هي التي ستقهر الحزن والألم.