الإرهاب والتغير الاجتماعي المطلوب

thumbgen (1)
حجم الخط
 

فرض الإرهاب المرتبط بالسلفية الجهادية تغييرا في تفكير الأجهزة الأمنية على مستوى العالم، كما فرض منطلقات سياسية جديدة في التفكير. لكن من غير المؤكد أنّ المسؤولين عن الأمن في العالم قادرون على الذهاب لآخر المدى المنشود في التغيير الاجتماعي والسياسي المطلوبين لتجاوز هذه الظاهرة.
كانت الولايات المتحدة تفتخر عادة بأنها محصنة عسكريا إلى أبعد مدى؛ فهي قارة بكاملها، لديها جاران مسالمان، أو ضعيفان عسكريا، هما كندا والمكسيك، فيما يحيط السمك (البحر) بها من جهتين (بحسب تعبير جورج ميرشماير عالم العلاقات الدولي الشهير)، وحيث لا يوجد أميركي ينام وهو خائف من غزو بري خارجي. لكن هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 غيرت من الصورة تماماً؛ فالإرهاب عدو يأتي من الداخل، وبطريقة غير تقليدية. وهذا فرض تغييرا في تركيبة الأجهزة الأمنية والعسكرية، لتنتقل من التدرب والاستعداد لمحاربة الجيوش التقليدية، إلى مواجهة مجموعات صغيرة تقوم بتدمير شديد. إلا أن الولايات المتحدة لم تستطع التسليم تماماً بطبيعة الخطر الجديد، وعاشت نوعا من حالة الإنكار، والتهرب من التحليل التاريخي والاجتماعي والسياسي الحقيقي لهذه الظاهرة.
فرغم أنّ المحافظين الجدد في زمن جورج بوش الابن تبنوا فكرة ضرورة تغيير الأنظمة السياسية والاجتماعية الحاضنة للإرهاب، إلا أنّهم من جهة هربوا كثيراً من مواجهة حقيقة أن بعض السياسات الأميركية هي سبب في ظاهرة الإرهاب، مثل دعم الكيان الصهيوني على حساب القانون الدولي وحقوق الإنسان. كذلك، فإنهم بحثوا، من جهة ثانية، عن الحل السهل، وهو افتراض أنّ هناك دولا راعية للإرهاب، ويجب تدمير أنظمتها وتغيير بناها، فذهبوا للعراق، وتركوا أنظمة حليفة كما في حالة باكستان. وحتى الحديث عن أهمية الإصلاح السياسي في دول عربية، لم يعش سوى قليل (تقريبا من العام 2003 إلى 2006)، ثم تم التراجع عن الحديث عن الديمقراطية، لصالح بقاء التحالف مع الأنظمة التقليدية المضمونة، خوفا من صعود قوى معادية عبر صناديق الاقتراع.
وعربيا، فإنّ ظاهرة الإرهاب الأصولي تأتي، في جزء منها على الأقل، نتاج عقائد أمنية انتشرت في الستينيات والسبعينيات، وتهدف إلى مواجهة اليسار والتقدميين والقوميين، بدعم القوى المحافظة اجتماعيا من عشائرية ودينية، بحجة رفض الكفر والتغريب (مع أن الأنظمة التي تحدثت عن الكفر والغرب هي في مقدمة من تحالف مع الغرب). وما فاقم اللجوء للفكر المحافظ الرافض للدولة الحديثة، وللحرية والتعددية، هو أن القوى اليسارية والقومية التي وصلت الحكم، كانت أكثر سوءا في احترامها للحريات والحياة الإنسانية من الأنظمة المحافظة والتقليدية، ووصلت دموية هذه الأنظمة التقدمية، حداً غير مسبوق. ثم تحول هؤلاء اليساريون التقدميون إلى نماذج تقليدية محافظة، تقوم على توريث السلطة والحكم ضمن العائلات المسيطرة الحاكمة، الجمهورية، وتمنع أي رأي معارض، وتتشدق بالمقاومة ضد الصهيونية، رغم كل الترتيبات مع الغرب والتحالف معه في المفاصل الأساسية، كتحالف هؤلاء مع الولايات المتحدة ضد العراق في مرحلة حرب الخليج (1990/ 1991).
لتجاوز ظاهرة الإرهاب، هناك قضايا إقليمية ترمز للظلم والتوتر بحاجة للمعالجة، مثل الموضوع الفلسطيني. ولا توجد، عمليا، قوى دولية أو إقليمية تعطي هذا الموضوع أولوية. ولتجاوز ظاهرة الإرهاب، نحتاج لمجتمعات حديثة، تقوم على حقوق المواطنة وحكم القانون، من دون أي أعطيات أو مكاسب تأتي بسبب الانتماء لعشيرة أو عائلة أو طائفة أو مجموعة اجتماعية، أو حتى بسبب مواقفها السياسية.
لقد شكلت الهويات التقليدية في المجتمع، من عائلية عشائرية ودينية أصولية، دعامة محافظة للحكم في بلدان عديدة في مرحلة ما. وهذه الهويات لم تعد ضمانة للاستقرار، بل على العكس هي عامل توتر، يبدأ من الصدام بين أصحابها، حتى في أماكن مثل الجامعات ومؤسسات التعليم، وصولا لتطرفها ورفضها للأنظمة والقوى المحافظة.
فإذا كان رفض التحديث القائم على حكم القانون والمواطنة المتساوية، يمثل نوعاً من الخوف من تغيّر توزيع القوى والأفكار الاجتماعية، في الماضي، وجزءا من الفكر المحافظ، فإنّ البنى التقليدية الأصولية الاجتماعية والفكرية (في جزء منها على الأقل) لم تعد قوة محافظة، بل قوى تدمير وتغيير عنيف يرفض الكل؛ يرفض المحافظ التقليدي ويرفض الحديث.

عن الغد الاردنية