وكل لا تأكل (تقلعط) !

حسن البطل
حجم الخط

على منوال قول النحاة: "قل لا تقل" وقول القواعديين ـ الإملائيين: اكتبها لا تكتبها.. في هذا اجتهد زميلي خالد جمعة في الأصوب من كتابة "إذن" أو "إذا" وحال صواب وأصوب. أكتبها أنا "إذن" مطلع الفقرة.
أما في طيات الصحف فتطالعون نصائح من نوع: "كل لا تأكل"، وفي عدد أول من أمس، وأمس من "الأيام" قرأت نصيحة اقتيات مزدوجة. الأولى: إياك أن تحمّص الخبز حتى يضرب لونه إلى البُنّي الداكن، بل توقف إن تلوّن بالبُنّي الفاتح.. والسبب: أن التحميص الزائد، كما في شرائح تحميص خبز "التوست" يحمل إليك خطر السرطنة، وفي نصيحة خبزية سلفت أن لا تبيت أرغفة الخبز في البرّاد طويلاً، كما لا تقتاتها من الفريزر إلى تسخينها بالنار مباشرة للسبب ذاته.
النصيحة الثانية: أن تتجنّب الإكثار من تنكية البطاطا المطلية وسواها بـ "الكاتشاب" لأن ملوّنات وصبغيات وإضافات قد تحمل إليك.. خطر السرطنة!
هاكم نصيحتين في عدد "أيام" الأمس: لا تُطعم أطفالك بزبدة الفستق الشهيرة من ماركة nutella لأن نصف العلبة من السكر الابيض وقسما آخر من بروتينات الحليب منزوع الدسم (سكميد) التي تعيق امتصاص المعدة لمركّبات هذه "الفلافونال" المضادة للأكسدة، كما أن إضافة زيت النخيل المكرّر والمغلي تحت حرارة تزيد على 200 درجة تعتبر ملوثاً مسبباً للسرطان. وفي طيّات النصيحة أن تقلل من الشيكولاتة بيضاء اللون، وتكثر من الشيكولاتة السوداء الداكنة "الفلافونية".
في نصيحة ثانية: عليك ببرتقالتين يومياً إن كنت، خاصة مدخّناً، فهي تقلل من خطر السرطنة (المدخنون عرضة له أكثر بـ 23 مرة عن غير المدخنين)، وفي إضافة أن الفلفل الحلو الملوّن بالأصفر والأحمر ينفع في الوقاية من خطر السرطان.
القوت اليومي لشعوب الأرض هو رغيف الخبز، من القمح أو الشوفان والذرة، وعن خبز القمح قيل: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان" لكن علماء التغذية والاقتيات الصحي يقولون: قد تكون في خطر الموت إن صمت طويلاً عن خبز القمح، ثم حشوت به معدتك. وماذا عن شواء اللحم، غير مضار الإكثار منه في إصابة شرايين قلبك بـ "الكوليسترول" اللعين؟ لا تشويه فوق لهيب النار بل على وقيد الجمر لأن المحظور مضاعف عن محظور الخبز زائد التحميص!
الآن، تلبس الناس زيّاً متشابهاً، وتقتات بمطابخ شعوب العالم، ويقولون لك إن طعام شعوب البحر المتوسط (المطبخ الكريتي) جيد في تشكيل عناصره، وبخاصة الاعتدال في تناول ملعقة زيت الزيتون يومياً، فهذا مضاد للكوليسترول، ومفيد في مضادات الأكسدة والفلافونية.. إلخ.
تعرفون أن ملكة الأكل والاقتيات هي هذه البندورة، وهي فاكهة في مسمى خضار، وهي نعمة من ثلاث أهداها العالم الجديد لشعوب العالم القديم إلى البطاطا والذرة، وأهدتنا لعنة هذا التبغ. في البداية ارتابت شعوب أوروبا بما اعتبرته "نبتة شيطانية" قد تكون سامة.. ثم أقبلت عليها شعوب المعمورة كافة، وبالغت في تدجينها وحقنها واللعب بمورّثاتها، وطرق إعدادها من رب البندورة كما كانت تصنعه جدتك بالتشميس، الى رب بندورة بالتسخين الآلي والإضافات المؤذية.. إلى هذا الكاتشاب الذي قد يهديك سرطنة إن أكثرت منه على البطاطا وشرائح دجاج "فرد تشيكن" مقلية.
يقولون، في غير مجال "كل شيء في أوانه حلو" وهذا ينطبق على الخضراوات والبقوليات في مواسمها، وصرنا نتناولها على مدار المواسم (هلأ نزل بطيخ الأغوار الإسرائيلي من الحماموت المخصي بلا بذور وسيلحقه العنب غير البذري.. إلخ).
في الواقع لكل شعب خلطات أطباق وطبخات تقليدية تلبي حاجة بناء الجسد بناءً سليماً، مثل صحن الفول والحمّص، أو طبخة يسميها العراقيون "تُمّن ومرق" من الرز والفاصوليا واللحمة.. ونباتات خضرية، أو مثل "الكشري" المصري، ولكل بيئة ثمارها.
في بيئة بلادنا هناك مزيج من الحليب والتمر، وفي المزيج فوائد لا تُحصى، وفي البيئة الاستوائية فواكه، أيضاً، وصرت تجد الحمضيات على مائدة شعوب لا تزرع الحمضيات، والزيتون وزيته على موائد لغير شعوب نطاق الزيتون المتوسطي.
ينصحونك أن لا تستخف أو ترمي بقشور الفواكه، وخاصة قشور الحمضيات: جفّفها واغليها واشرب نقيعها!
كان هناك من يستخفّ بفوائد هذه "الخبّيزة" البرية، وكان إسرائيليون يدعونها "خبز العرب" كما كانوا يزعمون أن "الزيتون للدواب والعرب" ولا أحد يستخفّ بفوائد العكُّوب بدرنيات "الكمأة" وهذا "اللوف" اللاذع إن أعددته بطريقة تنزع سُمّيته.. وهذه نباتات غير مدجنة وتنبت في مواعيدها تماماً، مثلما تطرح الزيتونة ثمارها في مواعيدها.
المثل الإنكليزي عن "تفاحة كل يوم" صحيح، لكن أي معدة قادرة على هضم كيلو من التفاح يومياً بلا مضاعفات "النفخة" في البطن، لكن تستطيع تناول كيلو من العنب في أوانه، يومياً، دون عوارض جانبية.
أحسن ما تأكل هو الاستجابة لنداء جسمك الخفي، الذي يميل بشكل متعادل بين الخضراوات والسلطات، الفواكه والبقوليات، وأنواع اللحوم البيضاء والحمراء، والأسماك، .. وبالطبع الحليب ومشتقاته التي لا تُحصى من الألبان والأجبان والزبدة.. وهذا "الكشك" الغابر المجفّف تحت شواظ الشمس، والمحشو بطحين القمح الكامل، علماً أن التجفيف تحت الشمس يُضاعف القيمة الغذائية حتى أربع مرات، ويشمل هذا رُب البندورة البلدية والمشمش المجفّف مثلاً.
الإنسان كان يسد رمقه بما يتوفر في بيئته من غذاء، وصار يقتات بما يملأ معدته بـ"البطنة التي تذهب بالفطنة" أو بما يملأ الأسواق من منتوجات غذائية صارت تخضع لـ "كل.. لا تأكل" وأنواع وأشكال من زجاجات عصارات الفواكه، وفوقها مكمّلات الغذاء من الفيتامينات والمعادن وأشكال إضافات الحديد من زمرة درجات B1 إلى B12.
من "قل.. لا تقل" إلى "كل.. لا تأكل" إلى "روح تقلعط"، تبقى القاعدة كما يقول الأميركان "نحن ما نأكل". الصحة والعافية نعمة.. وأحياناً تُبنى وتُصان بحرصٍ كما تُبنى أساسات البناء الشاهق.