القانون الإسرائيلي الأخير المتصل بالمناطق الفلسطينية المحتلة، والقاضي بإتاحة مصادرة الأرض الفلسطينية الخاصة لأغراض عامة غير أمنية، لا يعني أن الاحتلال لم يفعل ذلك من قبل أو أنه كان إلى ما قبل أسبوع ملتزماً بالقانون الدولي القائل بعدم جواز توطين الجهة المحتلة مواطنيها في مناطق كانت احتلتها. فقد تم توطين نصف مليون إسرائيلي في هذه المناطق ومصادرة أكثر من 30 في المئة من الضفة الغربية حتى الآن. ومع هذا ففيه بعض الجديد واللافت في مستوى توازنات القوى داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه وفي العلاقة بين السلطة التنفيذية وتلك القضائية وبين القوانين الدستورية القائمة على مبدأ الدولة كدولة يهودية - ديموقراطية وبين قوى اليمين الإسرائيلي التي تريدها يهودية من دون ديموقراطية.
القانون هذا، على رغم إقراره بالقراءة الثالثة والأخيرة في البرلمان الإسرائيلي، لن يصير نافذاً إلا بعد نشره في الجريدة الرسمية ومروره في اختبار المحكمة العليا الإسرائيلية التي اكتسبت مع الوقت مكانة "محكمة دستورية"، أيضاً. فقد أخذت لنفسها - إذا صحّ التعبير - حق إلغاء قوانين تتعارض مع مبادئ وقوانين دستورية. بمعنى، أن للمحكمة العليا الإسرائيلية في مثل هذه الحالات صلاحية نقض تشريعات السلطة التشريعية وإلغائها إذا ما اعتبرتها مخالفة لمبادئ أساسية في فلسفة نظام الدولة في إسرائيل. ومن هنا لا تُخفي أوساط الحكم اليميني خشيتها من أن يسقط القانون في اختبار المحكمة الدستورية، لا سيما أن المستشار القضائي للحكومة (هيئة قضائية مهمة تشكل محامياً كبير التأثير عن الحكومة - أعلن أنه لن يدافع عن القانون أمام المحكمة، وحذا حذوه المستشار القضائي للبرلمان وكبار المستشارين القضائيين والحقوقيين والأكاديميين).
من هنا، فالنقاش الأساس في المجتمع الإسرائيلي الآن هو حول مصير هذه المواجهة بين المحكمة العليا بوصفها محكمة دستورية والحكومة اليمينية التي تسعى إلى تجريد المحكمة من صلاحياتها التاريخية المُكتسبة كهيئة قضائية فوق البرلمان، وتحجيم دورها باعتبارها، إلى الآن على الأقلّ، أحد الكوابح المتبقية أمام انهيار كامل للديموقراطية الإسرائيلية وذهابها إلى أبرتايد مُعلن ومعتدّ بنفسه.
يترتب على هذا السِجال، بطبيعة الحال، سجال إسرائيلي داخلي آخر حول ديموغرافيا الصراع. فبينما يُصرّ اليمين الحاكم على انتهاز ما يوفّره الوضع الراهن من فُرص لضم المناطق المحتلة وتحقيق حلم دولة إسرائيل من البحر للنهر، تُحذّر أوساط في النُخب المعارضة من تحويل إسرائيل إلى دولة يتساوى فيها عدد اليهود بعدد الفلسطينيين، الأمر الذي يُنهي حلم البيت القومي لليهود بوصفه يهودياً وديموقراطياً كما نصت على ذلك "وثيقة" الاستقلال المؤسسة للدولة العبرية.
وبين هذه الطبقة من السجال وتلك تكمن السجالات بين تيارات داخل اليمين الإسرائيلي نفسه. هناك أيضاً تكمن اختلافات في وجهات النظر بين تيارات تُريد أن تُعلن اليوم قبل الغد عن ضمّ المناطق المحتلة مهما يكن الثمن، وتيارات تطالب بتوخي الحذر حيال الرأي العام العالمي، والمراهنة على فرض حقائق ناجزة على الأرض والمراهنة على الوقت. وهو سجال يُخفي في طياته صراعاً على السلطة بين المتشددين وغُلاة اليمين وبين اليمين الليكودي.
من هنا، فإن التشريع الاستيطاني المذكور أتى تتويجاً لسجالات ووجهات نظر ولعبة قوى داخل المجتمع الإسرائيلي، وهو يعكس توازنات الواقع الراهن في هذا المُجتمع أكثر مما يعكس توازنات القوة مع الفلسطينيين. فهي توازنات لم تنتظر القانون الأخير ولا قرارات المحكمة الإسرائيلية، بل فرضت نفسها واضحة خلال خمسين عاماً من الاحتلال. ومن المفارقات أن المحكمة ذاتها في إسرائيل هي التي كانت تُشرّع للإسرائيليين استيطانهم وتربّت على أكتافهم مُعلنة في كل مرة، ومن جديد، أنه استيطان قانوني مئة في المئة. أما عندما يقع اختلاف في وجهات النظر فهو، كما الآن، بين مذهبين ضمن الفكر الاستيطاني الكولونيالي ذاته. وهو فكر أساس في التجربة الإسرائيلية والصهيونية.
كان لاتفاقيات أوسلو، لو تراكمت وتحققت، أن تشكل منعطفاً لهذه التجربة باتجاه نزع الكولونيالية وتجريد الصهوينية من نزعتها إلى التوسّع. بيد أن اغتيال رئيس الحكومة الإسرائيلي، اسحق رابين في 1995، بعد عامين على توقيع اتفاقيات أوسلو، شكّل نقطة تحوّل في التجربة الإسرائيلية نحو تجديد المشروع الكولونيالي الإسرائيلي وتطويره. والقانون الأخير مرحلة واحدة في هذا التحوّل. وعليه، يمكن أن يُقترح على الفلسطينيين وعلى دعاة السلام في إسرائيل ألا يروا إلى ما يحصل من زاوية حلّ الدولتين أو الثلاث، بل من خلال قراءة الزخم الحاصل في المشروع الصهيوني في فلسطين التاريخية، وهو القوة المؤثّرة الآن، لا الإرث التفاوضي الذي ذهب أدرج الرياح. أرجح أن القيادات الفلسطينية أيقنت الآن ضرورة الخروج من حالة الانتظار أو الركون إلى الشرعية الدولية. ما يحصل الآن يستدعي أن تُبادر. فالقانون الاستيطاني الجديد يمسّ في شكل خطير حق الملكية، وهو حق دستوري، وبهذا الدور النافذ المُكتسب لجهاز القضاء الإسرائيلي.
عن الحياة اللندنية