صدر عن مركز الدراسات والبحوث الإسلامية (وهو مركز وهمي) كتاب "إدارة التوحش"، دون الإشارة لسنة الإصدار ومكانه، ولكن يفهم من السياق أنه صدر قبل عشر سنوات.. الكتاب مثير وخطير وفي منتهى الصراحة، لدرجة تثير الاستغراب، وهو متوفر على "النت" بأكثر من 15 ألف رابط، ويقدَّر عدد النسخ المنزلة منه أكثر من 10 ملايين نسخة.
المؤلف يدعى "أبو بكر الناجي"، وهو شخصية غامضة، قد يكون اسما مستعارا، وقد يكون الكتاب نتاج جهد جماعي، يقع الكتاب في 113 صفحة، يشرح الفكر الأيديولوجي للتنظيمات الجهادية، ويقدم بالشرح المفصل رؤية "القاعدة" في كيفية إدارة المناطق التي تسيطر عليها، وما تعتبره "واقع الأمة الإسلامية".. ويقدم الدليل الفكري والعملي لنسختها المطورة "داعش"، والتي لو تتبعنا عملياتها لوجدناها تطبيقا حرفيا لما جاء في الكتاب؛ لذلك يعتبره الباحثون البرنامج العملي لداعش، الذي يسير بهديه، وينهل منه معتقداته المتشددة.
في الوهلة الأولى، ظننت أن "إدارة التوحش" يُقصد بها إدارة الجيوش الغازية (الكافرة) للدول العربية والإسلامية التي احتلتها، مثل أفغانستان والعراق وسورية، نظراً لهول الجرائم التي ارتكبتها هناك.. ولكن المفاجأة أن المقصود بها هو إدارة "الدولة الإسلامية" للمناطق التي تسيطر عليها، وطبعا بطريقة متوحشة.. حيث جاء فيه: "إدارة التوحش هي المرحلة القادمة التي ستمر بها الأمة، وتعد الأخطر، فإذا نجحنا في إدارة هذا التوحش ستكون تلك المرحلة - بإذن الله - هي المعبر لدولة الإسلام المنتظرة منذ سقوط الخلافة، وإذا أخفقنا - والعياذ بالله - لا يعني ذلك انتهاء الأمر، ولكن هذا الإخفاق سيؤدي لمزيد من التوحش".
يصف المؤلف المراحل الثلاث التي يتبعها تنظيم داعش للوصول لأهدافه العليا، وهي مرحلة شوكة النكاية والإنهاك، ثم مرحلة إدارة التوحش، وأخيرا مرحلة شوكة التمكين، وهي مرحلة قيام الدولة.
"في مرحلة النكاية والإنهاك يكون التركيز على أهداف بعيدة، في الأطراف، أو في المناطق الشعبية التي لا توجد فيها قوات عسكرية، أو يكون وجودها بأعداد قليلة وبقيادة ضعيفة، وذلك لأن الدولة تضع الأكفاء لحماية الأهداف الاقتصادية، ولحماية الرؤساء والملوك، وبالتالي تكون هذه القوات سهلة المهاجمة والحصول على ما في أيديها من سلاح، وستشاهد الجماهير كيف يفر الجند لا يلوون على شيء، ومن هنا يبدأ التوحش والفوضى، وتبدأ هذه المناطق تعاني من عدم الأمان".
أي أن هدف هذه المرحلة هو "إنهاك قوات العدو والأنظمة العميلة لها، وتشتيت جهودها، ومنعها من التقاط أنفاسها بعمليات وإن كانت صغيرة الحجم، إلا أن انتشارها وتصاعدها سيكون له تأثير على المدى البعيد".
أما مرحلة إدارة التوحش فتقوم على "إظهار الشدة المفرطة إزاء الأعداء؛ بالذبح، وقتل المئات، والرجم، والرمي من مرتفعات شاهقة، والحرق، والإذابة بالحوامض.. وتصوير هذه العمليات بمهارة فنية، وبثها على أوسع الطرق، وإظهار مشاهد الأشلاء والدماء والرؤوس المقطوعة".. والهدف حسب المؤلف، هو أن "يفكر العدو ألف مرة قبل أن يهاجمنا"، أو لتسهيل احتلال المناطق من خلال بث الرعب والخوف في نفوس الأهالي، وكل ذلك في إطار الحرب النفسية.
ويفسر المؤلف مصطلح "إدارة التوحش" و"الفوضى المتوحشة"، بقوله: "لماذا أطلقنا عليها "إدارة التوحش"، ولم نطلق عليها "إدارة الفوضى"؟ ذلك لأنها ليست إدارة لشركة تجارية، أو مؤسسة تعمها الفوضى، أو جيران يعانون من الفوضى، ولكنها ستكون في وضع يشبه وضع أفغانستان قبل سيطرة طالبان؛ منطقة تخضع لقانون الغاب بصورته البدائية، يتعطش أهلها لمن يدير هذا التوحش، بل ويقبلون أن يدير هذا التوحش أي تنظيم، أخياراً كانوا أم أشراراً".
ويضيف شارحا: "مناطق التوحش يمكن أن تكون قرية، أو شارعا، أو حيا في مدينة".
وهذا ما لمسناه في سورية والعراق، حيث بدأ نشاط داعش بالسيطرة على شوارع، وأحياء وقرى، ثم اتسعت دائرة نشاطهم بسرعة خاطفة.
ويشير الكتاب إلى أن عملية اختيار المناطق للدخول إلى مرحلة "إدارة التوحش" اعتمدت على دراسات مرتبطة بالأحداث الجارية، فاستبعدت بعض المناطق، على أن يتم ضمها لاحقا، وأدخلت السعودية ونيجيريا في المرحلة الأولى، ومن ثم أصبحت الدول المرشحة مبدئياً لتدخل في مجموعة المناطق الرئيسة هي: الأردن والمغرب وباكستان واليمن.
ولتطبيق هذه النظرية، يضع المؤلف خطتين: الأولى، "تنويع وتوسيع ضربات النكاية في العدو الصليبي في كل بقاع العالم، بحيث يحدث تشتيت لجهود حلف العدو، ومن ثم استنزافه، فمثلاً: إذا ضُرب منتجع سياحي في إندونيسيا، سيتم تأمين جميع المنتجعات السياحية في جميع دول العالم، وبالتالي شغل قوات إضافية وزيادة كبيرة في الإنفاق، وإذا ضُرب بنك ربوي في تركيا سيتم تأمين جميع البنوك في جميع البلاد ويزداد الاستنزاف، وإذا ضُربت مصلحة بترولية في عدن ستوجه الحراسات المكثفة إلى كل شركات البترول وناقلاتها وخطوط أنابيبها لحمايتها وزيادة الاستنزاف، وإذا تمت تصفية اثنين من الكتّاب المرتدِّين في عملية متزامنة ببلدين مختلفين فسيستوجب ذلك عليهم تأمين آلاف الكتّاب في مختلف بلدان العالم.. وهكذا تنويع وتوسيع لدائرة الأهداف التي تنفذها مجموعات صغيرة ومنفصلة، مع تكرار نوع الهدف".
والخطة الثانية، التي يقترحها المؤلف تتمثل في تشتيت قوى الأنظمة الحاكمة في العالم العربي، بإجبارها على توزيع قوى الأمن لديها بحيث تصبح أولوياتها حماية الشخصيات للعائلات المالكة والأجهزة الرئاسية، ثم حماية الأجانب، ثم تأمين المرافق الاقتصادية، والسياحية.
الكتاب خطير، لأنه بمثابة "دستور الدولة الإسلامية المستقبلية" كما هي الحال في دولة داعش، ولأنه نموذج للخطاب الإسلامي الجهادي المتطور بكل معانيه الفكرية، والعسكرية والسياسية؛ الذي يعتمد على الحركة أكثر من الفكر، وعلى الفعل العسكري أكثر من الفعل السياسي، وعلى المستقبل أكثر من الماضي.
ويثير الكتاب التساؤلات أكثر مما يقدم إجابات، أهمها: هل هذا الخطاب الذي تتبناه السلفية الجهادية يمثل فكراً إسلامياً أصيلاً؟ أم أنه فكر دخيل؟
في النهاية لا يرى المؤلف إمكانية البقاء للدولة الإسلامية، فهي في نظره لا تستطيع تحقيق شعارها "باقية وتتمدد"، ولكنه يرى أن إزالتها لا تعني تحقيق الأمن والسلام.
ويتساءل إلى أين سيذهب آلاف المجاهدين؟ وماذا سنفعل بهم؟ فإذا كان مع "بن لادن" في "تورا بورا" حوالى ألف مجاهد؛ فإن للبغدادي عشرات الألوف، والقاعدة تقول إن كل "مجاهد" ينتج مائة في عشر سنين. فهل هذا يعني أن الموجة القادمة سيكون فيها ملايين الجهاديين!.