أميركا / ترامب لم تعد راعية للسلام

images
حجم الخط

 

 

 
 

تخلّي الولايات المتحدة عن "حل الدولتين"، الشعار / الهدف الذي كانت قد حددته بنفسها، قبل عدة أعوام، ومن خلال رئيس جمهوري _ وهذه مفارقة _ كان هو جورج بوش الابن، وذلك للالتفاف على مطالبة إسرائيل، فضلاً عن إلزامها بتنفيذ القرارات الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة، الخاصة بالصراع الفلسطيني / الإسرائيلي، يعني بكل بساطة أنها لم تعد مؤهلة للاستمرار في رعاية المفاوضات الفلسطينية / الإسرائيلية، أو متابعة العملية السياسية بين الفلسطينيين والإسرائيليين, بهدف التوصل لحل سياسي لصراع دامٍ ومستمر منذ عقود طويلة.
الرعاية الأميركية ذاتها، كانت بديلا عن رعاية أممية للعملية السياسية، التي انطلقت بعد مؤتمر مدريد الذي عقد عام 1991، بعد الحرب الثلاثينية الغربية على العراق بهدف إنهاء احتلاله للكويت، الذي لم تكن قد مضت عليه سوى ستة أشهر فقط، بينما الآن قد مر على احتلال إسرائيل لأرض الدولة الفلسطينية، خمسون عاماً بالتمام والكمال.
أحياناً كانت تتم الاستعانة بما سمي بالرباعية الدولية التي تضم الأمم المتحدة، الاتحاد الأوروبي، روسيا وأميركا لرعاية العملية السياسية الفلسطينية / الإسرائيلية للتعبير عن الاهتمام الدولي، لكن ذلك لم يكن إلا بهدف وضع المحددات العامة لإطار التفاوض، الذي سار على هدي "حل الدولتين" وذلك للتهرب من القول الصريح بانسحاب إسرائيل إلى حدود الرابع من حزيران عام 1967، مع ترتيبات أمنية تضع حدا أو تمنع إمكانية العودة مجددا لخيار الحرب بين الطرفين.
لا بد من القول بأن النتيجة تحدد بشكل قاطع ونهائي قدرة الولايات المتحدة، وان المنطق بكل براغماتيته السياسية يقول إن واشنطن فشلت في رعايتها للتفاوض، في نهاية المطاف من التوصل للحل، أو من قيادة الطرفين للاتفاق، لذا فلا بد من راع آخر، يرتضيه الطرفان، ذلك أن رعاية الولايات المتحدة للتفاوض خلال الفترة السابقة لم تكن قدراً من السماء، ولا بتفويض أممي، فهي لم تكن مبعوثاً لأمين عام الأمم المتحدة ولا حتى للرباعية الدولية، وإلا كانت ملزمة بتقديم تقرير دوري عما بذلته أو فعلته أو أنجزته خلال الفترة الدورية، كانت واشنطن وسيطاً برضا الطرفين وتفويضهما، لذا فان سحب هذا التفويض من قبل احدهما _ الجانب الفلسطيني، يعيد الراعي الأميركي إلى بيته.
لا بد من الرد إذن بكل صراحة ووضوح على تنصل واشنطن من "حل الدولتين" كهدف للتفاوض أو لمجمل العملية السياسية فيما يخص الملف الفلسطيني / الإسرائيلي، من قبل القيادة الفلسطينية، كرد على الموقف الأميركي، أما الرد على التراجع الإسرائيلي عن الموافقة أو حتى الاعتراف بالحق الفلسطيني بإقامة دولته المستقلة على أرضه المحتلة من قبلها، فلا بد أن يقابل بدوره بسحب الاعتراف بشكل صريح وواضح بدولة إسرائيل، والعودة للمطالبة بتنفيذ قراري الأمم المتحدة رقم 181 + 194 الصادرين عن الجمعية العمومية عامي 1947، 1948 على التوالي.
بالطبع الانتقال من قبل الجانب الفلسطيني لهذا الموقف لن يعني أن يتم تنفيذه فوراً، ولا حتى قبوله خاصة من قبل الجانب الإسرائيلي _ الأميركي، لكنه مهم جدا للفلسطينيين أنفسهم، الذين باتوا بحاجة ماسة لإعادة ترتيب أوراقهم الداخلية على كافة الأصعدة : السياسية والتنظيمية والجماهيرية، وذلك استعداداً لفصل جديد تماماً من فصول الصراع مع الجانب الإسرائيلي.
لم يعد ممكناً إذن الاستمرار بتبني المواقف ذاتها ولا اعتماد أشكال الكفاح ذاتها، ولا حتى السير على طريق العلاقات الدولية ذاته، وإذا كان التراجع الأميركي في تبني سقف الحل أو الهدف النهائي للعملية السياسية الذي يكفل تحقيق الحد الأدنى من التطلع الفلسطيني بإقامة الدولة المستقلة الذي يوازي تحقيق الأمن للجانب الإسرائيلي، فلا بد من مقابلة هذا بذاك، والرد على التراجع بالإقرار من حيث المبدأ بحق الفلسطينيين في دولة بالتراجع عن حق الإسرائيليين المحتلين بالأمن على أرض دولة فلسطين المحتلة، حيث لا حق مكتسبا لسارق بما سرق، ولا حق لمحتل بأن ينال الأمن على الأرض التي احتلها، والأمم المتحدة تشرع مقاومة الاحتلال.
كما لا بد من القول، إن الأمور لن تكون قاتمة أو بالغة السواد أو السوء للجانب الفلسطيني مع التراجع الأميركي في تبني حل الدولتين، حيث إن هذا الموقف يحرر الجانب الفلسطيني من وهم كون الراعي الوحيد للحل _ أي أميركا _ محايداً، فواشنطن لم تكن كذلك ولا في أي يوم من الأيام، كذلك فإن الموقف الأميركي جاء في ظل التراجع في مكانة واشنطن على مستوى العالم، وانسحابها قليلا من الهيمنة على ملفات الدنيا، أو بمعنى أدق بعد تصاعد قوة الأنداد، أو مع تزايد حضور قوى خارجة عن الطوع الأميركي أو أقل خضوعاً لأميركا، أو على قدر من التحدي لإرادتها، مثل روسيا، الصين، ثم بعض الأوروبيين.
لا بد من إطلاق فعل ميداني مقاوم يضاف للكفاح السياسي بشقيه السياسي والقانوني / القضائي، مع التنصل الهادئ والمتدرج من كل اتفاق أو توافق أو حتى تفاهم يحقق مصلحة إسرائيلية ناجم عن أوسلو _ الاتفاق والواقع _ إن كان على الصعيد الأمني أو الاقتصادي أو غيره.
وكما فرض تصاعد الغضب العربي على أميركا من كيلها بمكيالين بعد حرب الخليج الأولى تغيراً في الاهتمام بعقد مؤتمر مدريد، في الوقت الذي فرضت فيه الانتفاضة الأولى على إسرائيل الاعتراف بالجانب الفلسطيني والذهاب لمدريد ثم أوسلو، لا بد من فعل ميداني شعبي فلسطيني يوحد كل القوى ضد الاحتلال الإسرائيلي، ويشكل رافعة ضغط عربي / إسلامي، يضاف لكفاح سياسي، بالذهاب إلى راع دولي، أممي أو جماعي، تكون فيه روسيا والصين، حاضرتين، حيث يمكن استهداف مجلس الأمن بالتحديد من حيث أنه يمتلك قدرة على فرض الحل بالقوة، كراع جديد لعملية سياسية لا بد أن تظهر بعد فصل جديد من صراع ميداني مرير، وإلا فان الواقع دون تدخل خارجي سيذهب بنا إلى دولة واحدة تتبع نظام الفصل العنصري، وتحتاج إلى عقود أخرى حتى ينجح المجتمع الدولي في تفكيك نظامها كما فعل مع نظام الفصل العنصري الذي كان في دولة جنوب إفريقيا قبل عقود