هل ما زال أحد يشك بأن إسرائيل تريد غزة أو تريد شيئا من غزة؟ هل هناك من يعتقد حقا بأن إسرائيل تريد أن تحتل غزة؟ هناك من يبرر وجوده ودوره الوظيفي على هذا الاعتقاد ولكن الحقيقة شيء آخر تماما، فنظرية إسرائيل تقوم على السيطرة على أكبر قدر من الأراضي وأقل عدد من السكان. وقطاع غزة مساحة صغيرة أقل من مساحة مدينة في العالم مع كثافة سكانية وتزايد ديمغرافي هو الأعلى، وتلك حسبة خاسرة لإسرائيل ومتعاكسة تماما مع مصالحها التي سعت منذ سبعينات القرن الماضي للتخلص من القطاع أي بعد سنوات قليلة من اكتشاف خطئها.
أن تعود إسرائيل لاحتلال القطاع فهذا كابوس بالنسبة لها، ولن يكون لأن ذلك يعني عودة مليونين من الفلسطينيين إلى بطنها، ولكن إسرائيل أكثر ذكاء من ذلك بعكسنا، وقد فعلت ما يستدعي الحفاظ على مستقبلها بالتخلص من هذا القطاع الذي عرضته على الجميع إلى أن قبلته منظمة التحرير وهي في أسوأ ظروفها معتقدة أنه مقدمة لحل الدولتين، وثبت أن إسرائيل لم تكن تريد أبعد من تلك الخطوة حتى اكتشفنا خديعتنا الآن ولا زال بيننا من يصر مبتدعا من الوهم ما يكفي للتغطية على سذاجتنا السياسية ومأساتنا القائمة.
غزة القصة التي تورطت وورطت نفسها في كومة من الأزمات تبحث عن مخرج لها، ولا يبدو أن لهذه القصة من نهاية، أقصت نفسها وتشكو الآن من التهميش، عشر سنوات على مأساة إنسانية تتراكم وتجري لها محاولات حلول ترقيعية بلا طائل وبلا جدوى حتى من أصدقائها من الدول، منذ سنوات، ويجري البحث عن حلول لأزمات إنسانية لم نعد قادرين على إحصائها وملاحقة الكتابة عنها من الإسمنت للكهرباء للمعابر للسرطان للفقر والمتسولين للخريجين للتعليم للصحة للإعمار. كل هذه الأزمات آن الأوان للاعتراف أنها من صنع أيدينا، وقد بدأت منذ سيطرت حماس على القطاع في تلك المغامرة غير المحسوبة التي كلفتنا الكثير ولا زالت، ألم تكن كل تلك القضايا محلولة إلى حد ما قبل هذه المغامرة ؟
بعد الصراع الدامي على قطاع غزة والذي انتهى بطرد السلطة منه قال عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ياسر عبد ربه إن «حركة حماس ابتلعت منجل». كان يعرف مثلنا جميعنا أن حكم غزة أصعب كثيرا مما يعتقد الكثيرون، وهو ما قاله رئيس المكتب السياسي لحركة حماس متأخرا، لأن انفصال قطاع غزة عن السلطة الوطنية يعني أن يصبح منطقة غير معرفة بالقانون ولا تربطه أية علاقات مع العالم ولا تستطيع أية دولة التعامل معه دون المرور بالسلطة المطرودة، وهنا يبدو الحديث عن إنقاذ غزة التي ظلمت نفسها مع استمرار خروجها من غلاف السلطة كحديث دون جدوى مع كل النوايا الطيبة ولكنه لا يعي الواقع الحقيقي.
لقد راهن الجميع على إدراك حركة حماس المبكر لتعقيدات المسألة والمغامرة بواقع ومستقبل سكان هذه المنطقة الفقيرة والبائسة قبل التوسع في بناء المؤسسات وقبل أن تصبح هذه المؤسسات عبئا على المصالحة وتحول دون تحقيقها وقبل أن تتخم المؤسسة بهذا الجيش من الموظفين، ولكن الأمر ذهب بعيدا إلى الحد الذي أصبح فيه الحديث عن المصالحة واحدة من المستحيلات، ليس بسبب الموظفين فحسب، بل لأن برنامج الحركة أيضا ما زال في حالة تضاد تام مع السلطة وواقعها والتزاماتها وهويتها التي تشكلت على أساسها، وتلك مسألة في غاية التعقيد.
وفي ظل هذا الواقع المركب، فإن غزة ستستمر بالغرق في أزماتها إن استمرت خارج نظام السلطة مع الزيادة الديمغرافية الهائلة والبشرى لغزة حسب تقرير « فلسطين 2030 التغيير الديمغرافي فرص التنمية « الصادر عن مكتب رئيس الوزراء واللجنة الوطنية للإسكان وصندوق الأمم المتحدة للسكان «أن عدد سكان قطاع غزة عام 2030 أى بعد سبعة عشر عاما فقط سيكون 3.1 مليون نسمة».
الأرقام التي يوردها التقرير والتي لا يعيرها من يدير قطاع غزة اهتماما تبدو ثقيلة، إذ يشير التقرير الى أن غزة ستحتاج خلال ثلاثة عشر عاما إلى 23 ألف معلم إضافي وإلى 6800 طبيب وإلى 12700 كادر تمريضي وإلى 5200 سرير مستشفى، وحوالي 600 ألف زيادة في عدد الطلاب، ولم يورد التقرير عدد المباني والشقق في ظل أزمة الإسمنت والإعمار، ولم يأت على ذكر أزمة الكهرباء ولنا أن نتصور حجم الكارثة القادمة لمجرد التدقيق في الأرقام وتصور انعكاسات الزيادة على الاحتياجات.
غزة ليست موحدة كما يقول البعض، فهي تعيش الانقسام بكل تفاصيله، ذلك الشعار كأنه يسلم بأن غزة تقبل بما هو قائم فيها من نظام حكم ولكن المشكلة فقط في الآخرين ... الأغلبية في غزة لا تريد استمرار هذا الوضع، تريد مصالحة وشراكة وإنهاء لكل الأشياء. وكثيرون يعرفون أن الحصار هو نتيجة طبيعية للصراع على السلطة وطرد السلطة وأن معبر رفح أغلق في 14 حزيران 2007، لماذا هذا التاريخ بالذات؟ وهو نفس تاريخ فرض الحصار، الجميع يعرف ذلك، كل محاولات رفع الحصار باءت بالفشل، وبات من الواضح أن ليس هناك سوى مدخل واحد ووحيد لفكفكة أزمات غزة، وهو انهاء الانقسام وعودة غزة التي تضمن مسؤولية السلطة عن غزة «لا يعني ذلك إقصاء حماس بل أن تكون جزءا من السلطة وليس الحاكم الوحيد» هذا المدخل الذي نعرفه جميعا، بل وأن تجربة السنوات الماضية أثبتت ما لا يقبل مجالا لأي شك أن لا حل غيره، فماذا نحن فاعلون؟
كل ما نفعله بأننا نحاول كما النعامة دفن رؤوسنا في الرمال وتجاهل العقدة الحقيقية والالتفاف بتذاكٍ بحثا عن حلول ترقيعية وتاركين أصل المشكلة. نبحث في الفروع متجاهلين الجذور، نبحث عن النتائج ونتجاهل الأسباب الحقيقية بأن هذه المنطقة «وهذا حديث مكرر حد الملل» لا حل لها إلا من خلال السلطة شئنا أم أبينا، رضينا أم عارضنا، فهي منطقة خاضعة قانونياً للسلطة الوطنية، لذا ينبغي الحديث بشكل واضح ومباشر دون مداورة. إذا ما أردنا إنقاذ غزة لن يتم هذا إلا بإنهاء الانقسام، ودون ذلك سنستمر في محاولات قد تستغرق مزيداً من الوقت على حساب سكان غزة، لأن أوهام الوعود السابقة بالحلول خارج المنطق وخارج السياق الفلسطيني كرست الأزمة وأطالت عمرها.
هذا الحل يبدو بعيد المنال في ظل فشل كل المحاولات، وإلى حين ذلك يجب على مصر أن توفر ممراً إنسانياً آمناً للسكان، فلا يجوز إيقاف حركة مليونين من البشر بهذا الشكل، هذا أكبر سجن في التاريخ .. صحيح أننا صنعناه بأيدينا ولكن ما العمل عندما نتهرب من الحل.. يعني أن الأزمة دائمة وفي أثنائها يكون من الضروري توفير سلم نجاة يتمثل في فتح جزئي لمعبر رفح على الأقل، كما كان في فترة الرئيس السابق مبارك، ولا يجوز أن نبقى أسرى هذا الواقع المضطرب بلا نهاية، وليس من المنطق أن تنتظر مصر إتمام المصالحة للتنفيس عن القطاع .. والسؤال الذي يبقى حاضراً هل كانت غزة مغلقة ومحاصرة قبل حزيران 2007؟ الإجابة تصنع تصور الحل والإنقاذ، هكذا الأمر بشكل مباشر ..!