الكاتب: أ.صخر سالم المحاريق
يعتبر قطاع المهن التطبيقية عزيزي القارئ ذو أهمية كبيرة منذ الأزل، فالسباكة، والحدادة، والنجارة، والبناء، والحرف المختلفة، أعمالٌ ليست وليدةُ اليومِ فحسب، وليست مقتصرةٌ أيضاً على سوق عملٍ دون الآخر، فهي أساسُ أيُّ اقتصادٍ سواءً كان ناشئاً أم نامياً أم متقدماً، قال تعالى: في إشارته إلى مهنة وصنعة سيدنا داوود عليه السلام (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ) 80 الأنبياء، بحيث ميّزه الله عن غيره في صنعته، وهي "الحدادة وصناعة الدروع"، كذلك الأمر بالنسبة للعديد من الأنبياء والرسلِ عليهمُ السلام، فنبي الله نوح كان نجاراً، وإدريس كان خياطاً، إذن فما هي تلك المهن؟ ولماذا أدرجت تحت مسمى التعليم المهني والتقني؟ وما هي أهمية هذا التعليم في التنمية الاقتصادية والاجتماعية؟ ولماذا يعتبر هذا النوع من التعليم الأوفرُ حظاً في الدول المتقدمة؟ والدول الأخرى التي عقدت النية على اللحاق بركب التقدم والحضارة، فلماذا يريد معظم الشباب أن يكونوا أطباء وأكاديميين؟ على حساب تلك المهن ذات الأهمية الحقيقية في سوق العمل، والتي لا تتطلب دراسات جامعية عليا.
يُعَّرفُ التدريب عزيزي القارئ الكريم على أنه؛ إكساب الفرد المهارات والسلوكيات العملية التي تعزز من إتقانه وأدائه لأمرٍ ما بشكلٍ مثالي، كما يُعتبر السلوك التطبيقي للجزء النظري، والمتمثل في التعليم الذي يُعبِّر بدوره عن "المخزون المعرفي والمعلوماتي"، فالمزج بين التدريب والتعليم يجعل من الفرد أكثرُ قدرةً على أداء عمله بشكلٍ كفؤٍ وفعال، كما يجعل سرعة اكتسابه للمعارف والمعلومات أكبر، بحكم الخبرة العملية القائمة على أساس الملاحظة والتجريب، ويجعل الفردُ قادراً على التكيف مع المشاكل التي تعترضه، وإيجاد الحلول لها، وبالتالي يصبح أكثرُ قدرةً وتخصصية في جوانبٍ محددة، تقع ضمن اهتماماته وهواياته، مما يجعله على دراية وتمكن.
من هنا برزت أهمية التعليم والتدريب المهني والتقني في سائر أنواع التنمية: الاجتماعية، والبشرية، والاقتصادية، والمجتمعية، لأهميته في توجيه وتخصيص الجهود في جوانب محددة، فالتعليم المهني والتقني هو أقصرُ الطرقِ للحصول على عمل، من حيث مدته الزمنية القصيرة نسبياً، وكلفته التعليمية المناسبة للأفراد ذوي الدخل المحدود، كذلك من حيث تنوع البرامج المطروحة، والمحفزات التشجيعية للالتحاق بها، إضافةً لكونه التعليم الذي يطلق العنان للهوايات، والإبداع، والابتكار، والاستقلالية في العمل، نتيجةً لاعتماده على اختيار الفئة المستفيدة، بناءً على قدراتِ الأفرادِ ومهاراتهم المختلفة والمتباينة، فعلى سبيل المثال لا الحصر: يعتبر النموذج الألماني للتعليم المهني والتقني –المسمى بنظام التعليم المهني الثنائي- هو الأكثرُ تميزاً في برامجه التعليمية، وتنوع تخصصاتها، والذي يضم أكثر من 370 مهنة، تؤهل المتدربين للعمل في أكثر من 20 ألف عمل مهني، مما جعل من ألمانيا أحد أفضل نظم التدريب والتطبيق العملية في العالم، ففي ألمانيا يسلك أكثر من 80 بالمائة من الشباب طريق التعليم المهني في المدارس، والمعاهد، والكليات المهنية، في حين يلتحق قرابة 15 بالمائة منهم بالجامعات العامة والخاصة، كما يمثل هؤلاء الخريجين معظم القوى العاملة المحركة لعجلة الاقتصاد والصناعة الألمانية، وشعار "صنع في ألمانيا" ويشكلون النسبة الأكبر من أصحاب المشروعات الصغيرة، والمتوسطة، بحسب تقارير وإحصائيات اقتصادية ألمانية، كذلك الأمر بالنسبة للعديد من الدول التي لحقت بركب الحضارة والتنمية، كتجربة ميهاتير محمد في ماليزيا، والتي ركّز فيها على هذا النوع من التعليم، من أجل تعزيز العديد من الصناعات المتخصصة، والتي تفوقت فيها ماليزيا على غيرها، وكذلك الأمر بالنسبة للهند، فالهنود اليوم يشكلون الفئة الأوفر حظاَ لصناعة البرمجيات المتخصصة، ونظم التشغيل لأكبر الشركات العالمية، كأبل، وسامسونج، ومايكروسوفت.
ولكن ما الذي نحتاجه كعرب وفلسطينيين لتطبيق هذا النوع من التعليم، والذي نحن بأمس الحاجةِ إليه، لعلاج مشاكل معضلة كالبطالة، والأمية، وفائض التخصصات في سوق العمل، ووفقاً للعديدِ من الدراسات، والبحوثِ العلمية، ورسالةٍ أهلتني للحصول على درجة الماجستير، بعنوان "دور التعليم المهني والتقني في التنمية المجتمعية المستدامة" عام 2014 في معهد التنمية المستدامة – جامعة القدس، حول نفس الموضوع والتي سطرت فيها بعضاً من المقترحات والتوصيات التي أوجزها بما يلي:
أولها: تغيّر النظرة الدونية السائدة في المجتمع حول هذا النوع من التعليم، والقائمة على أساس تصنيف المهن وفق مبدأ "عمل لائق وغير لائق"، من خلال توعية المواطنين ككل باهتمامات وميول أبنائهم.
وثانيها: إيجادُ نظامٍ تعليمٍ مهنيٍ موازٍ للتعليم التقليدي منذ المرحلة الأساسية، يُركّز على قدرات الفرد وميوله ورغباته، وتصميمُ منهاجٍ مثالي ومتخصص، يساعد في صقل وتعزيز هذه الميول والاهتمامات، وتوجيهها نحو حاجات المجتمع الأساسية، ينجم عنه الالتحاق بالبرنامج أو الكلية المهنية التي تراعي بدورها حاجات ومتطلبات السوق الفعلية، والمستندة في بحثها على التشبيك والتعاون الوثيق مع مؤسسات الأعمال المختلفة، ومؤسسات التعليم المهني الأخرى، والوزارات المختصة، والتي تجند في مجموعها الطاقات والإمكانيات المادية، والبشرية، التي تستهدف إيجاد صناعات ومهن متخصصة، يراعى فيها حقوق العاملين، وأمنهم الوظيفي، وسلامتهم المهنية، والتي تتلخص في خلق بيئة متكاملة حاضنة وراعية لهذه التخصصات.
وأهيب بدور وزارة التربية والتعليم ووزارة العمل في فلسطين بجهودهما الرامية لتعزيز هذا النوع من التعليم، والتركيز عليه في المرحلة القادمة، شأنه شأن التعليم الأساسي، والأكاديمي، من خلال بذل المزيد من الجهود في سبيل ذلك، وتعزيز ثقافة العمل الحر، والتي باشرت بالعمل عليه العديد من الجامعات والكليات الفلسطينية المرموقة، بتشجيع الخريجين فيها وتعليمهم مهارات البدء بإنشاء مشروعاتهم الخاصة، وثقافة الريادة والإبداع، عبر جهود دولية تسعى لتحقيق العدالة، والمساواة، الاجتماعية، والتمكين الاقتصادي، والاجتماعي، الراعية لأهداف الأمم المتحدة التنموية، كبرنامج منظمة العمل الدولي (ILO)، والمعروف باسم "تعرف إلى عالم الأعمال (KAB)"، والذي ترعاه وتطبقه العديد من كليات المهن التطبيقية، والتعليم المهني الوطنية، والمتميزة مثل: جامعة بوليتكنك فلسطين، ممثلة بكلية المهن التطبيقية التي تمنح درجة الدبلوم المتوسط (سنتان) في التعليم والتدريب المهني والتقني المتخصص، ودائرة التعليم المستمر التي تمنح الدبلوم المهني (سنة واحدة) في ذات المجال، وكذلك الأمر بالنسبة لكليات طاليتا قومي، ودار الكلمة، وكلية فلسطين التقنية – العروب، وغيرها.
* محاضر جامعي في جامعة بوليتكنك فلسطين