«وعد» بلفور.. ملاحظات هامشية!!

هاني حبيب.jpg
حجم الخط

في كل الاحوال، لم يكن «وعداً» بل تصريحاً أو إعلاناً، هو ذاك ما بات يطلق عليه على نطاق واسع «وعد بلفور»، والتصريح أو الإعلان ملزم سياسياً بينما الوعد ملزم أخلاقياً، وعد مكماهون للشريف حسين كان ملزماً، ولم تلتزم به حكومة صاحبة الجلالة بينما التزمت ببيانها نحو الصهيونية العالمية. مصطلح «من لا يملك لمن لا يستحق» لا يعود فقط إلى أن ليس من حق بريطانيا العظمى، أن تمنح هذا «الوعد» لليهود كونها لا تملك فلسطين التي يملكها شعبها فقط، ولكن وأيضاً لأن بريطانيا لم تكن تسيطر على فلسطين في ذلك الوقت، حيث كانت فلسطين وسائر المنطقة في المشرق العربي تخضع للحكم العثماني، إلاّ أن «وعد بفور» عام 1917، يفسر لماذا أصرّت بريطانيا، عام 1916، وأثناء مباحثات سايكس ـ بيكو لاقتسام المنطقة العربية بين فرنسا وبريطانيا، على أن تكون كل فلسطين تحت الوصاية البريطانية، بينما كان الاتفاق الأوّلي على أن يكون شمال فلسطين تحت وصاية فرنسا بينما جنوبها، يخضع لوصايتها. التفسير البريطاني لهذا الاصرار يعود إلى أن مسألة منح لندن لهذا الوعد لليهود، كانت تخضع لحوارات طويلة في اطار الحكومة البريطانية وبرلمانها، لكن تبريرات اصرار بريطانيا على أن تخضع فلسطين بالكامل لسيطرتها، تتخذ وجهة أخرى، بالإشارة إلى أن هذه السيطرة الكاملة على فلسطين، تمنحها سيطرة على تخوم قناة السويس، أكبر مرفق دولي للاقتصاد في تلك الفترة، ولدى انسحاب بريطانيا من فلسطين، تستمر هذه السيطرة من خلال كيان يهودي يتبادل معها الخدمات.
وبينما تناول بعض المراقبين والمحلِّلين كيفية صياغة هذا الوعد، وتوقفوا عند وطن «قومي لليهود» وليس دولة، وناقشوا المغزى السياسي لهذا المصطلح، فإننا نحاول أن نعود من هذا المصطلح إلى ما بعده، وهنا نذكّر بقصة «ال التعريف»، فوعد بلفور لم يستخدم «ال التعريف» هذه، مشيراً إلى وطن وليس الوطن، و»في» فلسطين وليس «على» فلسطين، بداية فإن من صاغ القرار الدولي 242، اللورد البريطاني كارادون، الذي تلاعب على النص الفرنسي للقرار، والقاضي بالانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة عام 1967، مستخدماً «انسحاب إسرائيلي من أراضٍ عربية محتلة.. إلخ» وتمخض عن هذه الصياغة متطلب «إعادة رسم الحدود بين إسرائيل والدول العربية بما لا يلزمها الانسحاب من كل الأراضي المحتلة، أما حول صياغة «في فلسطين» وليس «على فلسطين» فإن ذلك يعني من الناحية الصياغية البحتة، أن وطن اليهود في فلسطين ليس متفرداً عليها، بعكس حال استخدام «على فلسطين».
ولعلّ جوهر هذا الوعد يتعلق «بالحقوق» فهو لا يعترف بحقوق سياسية «للطوائف والمجموعات غير اليهودية» كما جاء في نصوصه، بل بحقوق مدنية ودينية، وهذا النص أخطر ما جاء به لناحية عدم اعترافه بقومية أخرى هي الفلسطينية العربية، بمسلميها ومسيحييها، واعتبرها مجرد طوائف ومجموعات ليس إلاّ مع أنها كانت أكثر من 94 بالمئة من سكان فلسطين في ذلك الوقت، إلاّ أن هناك في هذه العبارة، وبالتحديد الجملة اللاحقة لها، ما يشير إلى مسألة لا تقل أهمية، وذلك عندما ذكر النص، الحفاظ «على الحقوق السياسية  لليهود في أي بلدان أخرى» وتفسير ذلك ظهر فيما بعد، إذ تمت ترجمة ذلك إسرائيلياً، بحق المهاجرين اليهود إلى فلسطين، الاحتفاظ بجنسيتهم الأصلية العائدة إلى البلدان التي هاجروا منها، إلاّ ان التفسير الأكثر قرباً إلى الواقع، مع أن هذا التفسير يتم التنكر له، ان أحد أسباب هذا الوعد، يتلخص في أن يهود أوروبا، عاشوا في عزلة «غيتو» وعانوا من الاضطهاد ولم تمكنهم المجتمعات الأوروبية من الاندماج وتم التعامل معهم بازدراء، وباختصار لم يكن اليهود مرغوبين في العيش في أوروبا، رغم ـ وربما لأن ـ هؤلاء سيطروا في أحيانٍ كثيرة على اقتصادات تلك البلدان، وعاثوا بها دسائس ومؤامرات. التخلص من اليهود كان مطلباً موارباً، للقيادات السياسية والاجتماعية في أوروبا، وترحيلهم إلى أي مكان، بما في ذلك فلسطين، سيشكل مكسباً للمجتمعات الأوروبية، لذلك، جاء في النص تلك العبارة التي «تحاول» أن تنفي هذا التفسير المبطّن، بالقول إن اليهود سيحتفظون بحقوقهم السياسية في الدول الأخرى!
الترجمة العملية لهذا «الوعد» تمّت من خلال فتح باب الهجرة إلى الأرض الفلسطينية، لكن قيام دولة إسرائيل كان قبل الإعلان عنها في 1948، إذ بدأ اليهود في تأسيس دولتهم بعمل مؤسسي، وقاموا بإنشاء أوّل جامعة، الجامعة العبرية عام 1925، وقبل ذلك بعام واحد، تم إنشاء الجامعة التقنية، التخنيون، الدولة العبرية أقامت مؤسساتها المؤسسة لها قبل الإعلان عنها، وهذا أحد أهم أسرار نجاحها في الاستمرار رغم كل أشكال المواجهة والثورات الفلسطينية المتلاحقة!!