في مسألة الهولوكوست والعداء للسامية..!!

حسن خضر.jpg
حجم الخط

أحسن الرئيس صنعاً بالاعتذار عمّا بدر عنه، في الجلسة الافتتاحية للمجلس الوطني، حول اليهود والمحرقة. ليس في سيرته السياسية، أو الفكرية، ما يدل على عداء للسامية، ولكن الكلام الشفاهي، وما انطوى عليه من استطراد فرضته المناسبة، يقبل التأويل على أكثر من وجه، خاصة من جانب مُتربّص في الانتظار.
ولا ينقصنا، في الواقع، أن نفتح على انفسنا باباً يصعب إغلاقه، فتمييز الصهيونية كأيديولوجيا سياسية عن اليهودية كديانة، وعن اليهود كجماعة بشرية ذات سمات دينية وثقافية خاصة، يُعتبر من ميراث منظمة التحرير. وقد كان هذا الميراث من مصادر القوّة الناعمة، التي استثمرتها الحركة الوطنية الفلسطينية في مراحل صعودها.
ومع هذا كله في البال، أعتقد أن ما أثار غضب الإسرائيليين والأميركيين، على نحو خاص، وحتى أكثر من موضوع اليهود والهولوكوست، كان محاولة الرئيس تشخيص فكرة الدولة اليهودية، في فلسطين، بوصفها جزءاً من استيهامات قومية ودينية غربية حوّلها المخيال الكولونيالي، في الأزمنة الحديثة، إلى مشاريع سياسية في خدمة الإمبراطورية. وفي هذا الصدد تفيد العودة إلى "الكتاب المُقدّس والسيف" لباربرا توخمان، وهي مؤرخة أميركية مرموقة، عن علاقة بريطانيا بفلسطين.
 وتفيد، أيضاً، العودة إلى تحليل إدوارد سعيد اللامع في "مسألة فلسطين" للبيئة التي نبت فيها "وعد بلفور"، فلم تكن لسكّان فلسطين، في آسيا الغربية، أهمية أو قيمة تُذكر، بالمعنى الإنساني والثقافي والسياسي، في نظر صانعي السياسة البريطانية، مقارنة بالعثور على حل للمسألة اليهودية، التي شغلت الغرب على مدار قرون، خاصة وأن في حل كهذا ما يترجم قناعات دينية وثقافية راسخة من ناحية، وما يخدم الإمبراطورية، وطريقها إلى الهند، من ناحية ثانية.
ومع ذلك، كان استثمار الغضب في موضوع اليهود والهولوكوست، بحكم حساسيته المُفرطة، أكثر جدوى ونجاعة من الانخراط في مناكفات تاريخية باردة. فوصم هذا الشخص أو ذاك، في عالم اليوم، كما وصم هذا الكيان السياسي أو ذاك، بالعداء للسامية، يُعتبر وصفة مضمونة للهلاك بالمعنى الأخلاقي، والسياسي.
والمفارقة، في هذا الشأن، أن الفرضيات التي ذكرها الرئيس في معرض الكلام عن خصوصية الوظيفة الاقتصادية والاجتماعية لليهود، في أوروبا، كانت شائعة ومتداولة في نقاشات، وهموم، المنوّرين اليهود أنفسهم في القرن التاسع عشر، ويمكن العثور عليها في نظرية الهرم الاجتماعي المقلوب، وضرورة العودة إلى العمل اليدوي والأرض، التي ألهمت المستوطنين الصهاينة الأوائل في فلسطين، على أمل توفير الظرف الملائم لولادة اليهودي الجديد.
وبالقدر نفسه يمكن العثور على الفرضيات نفسها في نقاشات ماركس وبرونو باور بشأن المسألة اليهودية. وقد ألقت تلك النقاشات بظلالها على ماركسيات مختلفة، بما فيها ماركسية العماليين الصهاينة الأوائل، وعلى مدرسة التأريخ السوفياتية، والكتلة الاشتراكية، والأحزاب الشيوعية، في أربعة أركان الأرض، حتى وقت متأخر من النصف الثاني من القرن العشرين.
هذا لا يعني أن الفرضيات المذكورة صحيحة. ولا يعني، أيضاً، أن من شأنها تفسير لماذا وقع الهولوكوست، ولماذا اليهود بالذات، بل يعني أنها كانت اجتهادات قيد التداول على مدار فترة طويلة من الزمن، وهي، على غرار فرضيات كثيرة في علوم السياسة والاجتماع والتاريخ، سجالية وإشكالية في أفضل الأحوال. وقد اختلف المؤرخون وعلماء السياسة والاجتماع بشأنها، على مدار عقود، دون أن يعني ذلك أن القائلين بها كانوا، بالضرورة، معادين للسامية.
 ومع هذا كله في البال، ينبغي ألا نتجاهل حقيقة أن خصوصية الوظيفة الاجتماعية والاقتصادية لليهود، كانت في صلب الأيديولوجيا النازية، وقوميات عنصرية كثيرة في مناطق مختلفة من العالم، خاصة في أوروبا. لذا، ثمة ما يشبه خيطاً رفيعاً ينبغي المشي عليه، في معرض تحليل الهولوكوست، وظاهرة العداء للسامية.
ولنلاحظ، هنا، أن تهمة العداء للسامية تحوّلت إلى ما يشبه هراوة غليظة في يد الإسرائيليين، والأميركيين، على نحو خاص. فثمة محاولات دؤوبة في حقول السياسة والعلوم الإنسانية عموماً لتحويل كل نقد لإسرائيل كدولة، وللصهيونية كأيديولوجيا، إلى نوع من العداء للسامية. وإذا استمر الحال على هذا المنوال، في ظل الإعياء الثقافي، والسياسي، والإنساني، الذي يجتاح عالم اليوم، ربما يصبح إحياء ذكرى النكبة نوعاً من العداء للسامية في يوم ما.
ومع هذا، أيضاً، كله في البال، تبقى مسألة أخيرة: لماذا يعنينا أمر العداء للسامية، والهولوكوست؟ أولاً، لأن الهوية، كما في عبارة لمحمود درويش، هي "ما نُورِّث لا ما نرث" وفي معرض التفكير في هويتنا الوطنية ينبغي ألا نحيد عن حقيقة أن الأصل في هوية بلادنا هو التعدد الثقافي، والإنساني، والديني، على مدار قرون طويلة، وأن اليهودية، كما المسيحية والإسلام، تشكّل جزءاً من ميراثنا الثقافي، والإنساني، والديني. وفي سياق كهذا فإن في مجرد القبول بالعداء للسامية، أو غض النظر عنه، ما يعني الفشل في استخلاص دلالة التعددية، وما يسمها من أفق إنساني عريض، وما تعد به من قبول للآخر، وتعايش معه.
وثانياً، لأننا لسنا في معرض التنافس مع اليهود على مكان ومكانة الضحية. الهولوكوست ليس واقعة تاريخية وحسب، بل ويمثل الاعتراف به إدراكاً لحقيقة أن النزعات القومية والدينية المتطرّفة وصفة مضمونة لخراب العالم، وإن الاستيهامات العنصرية، القومية منها والدينية، بكل ما يسمها من نزعة الثأر، والنقاء الذاتي، ووعد الخلاص، إذا شرعت في، أو دعت إلى، تصفية أعداء حقيقيين أو متوّهمين من خارج الجماعة القومية أو الدينية، فلن تتوّرع في وقت ما عن الاستدارة لاختراع وتصفية أعداء حقيقيين، ومُتوّهمين، من داخل جماعة تزعم الدفاع عنها، وتمثيلها.
ثمة هذا، وغيره في البال، ولنا عودة.