المجلس الوطني أبَّنَ نفسه بتفويض صلاحياته

thumb.jpg
حجم الخط

 

الضحية الأكبر مما جرى من عقد المجلس الوطني بالطريقة التي شاهدناها هي الإطاحة بما تبقى من مؤسسات منظمة التحرير، لدرجة أن المخاوف بأن تكون هذه الدورة هي الأخيرة التي يعقدها المجلس لها ما يبررها.

هناك من اعتبر أن المجلس جدد الشرعية والقيادة، وأن مجرد عقده بعد غياب طويل إنجاز بحد ذاته، متناسيًا أن المطلوب أن يكون المجلس بمستوى التحديات والمخاطر والقدرة على مواجهتها، وتوظيف الفرص المتاحة، لأن بقاء القديم على قدمه مع وصوله إلى طريق مسدود لا يعتبر نجاحًا، وأهم التحديات إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، فما معنى عقد المجلس الوطني وسط عدم اكتراث شعبي، وفي ظل غياب حركتي حماس والجهاد والجبهة الشعبية وأكثر من 150 عضوًا، معظمهم من أعضاء التشريعي المنتخبين من الشعب، فما حصل لا يمنح القوة ولا الشرعية المطلوبة لمؤسسات المنظمة، فقوة المنظمة مستمدة من تمثيلها للشعب الفلسطيني كله وليس قسما منه أي من تمثيلها للشرعية الفلسطينية أولًا، وليس من حصولها على الشرعية العربية والدولية والإسرائيلية.

في غياب الانتخابات والمقاومة والتوافق الوطني والقبول الشعبي تبقى الشرعيات الأخرى هي المتاحة. أما الشرعية الأهم، وهي الفلسطينية، فغائبة وناقصة، إذ لا يمكن القول بثقة إن اللجنة التنفيذية الجديدة والمجلس المركزي يجسدان الشرعية الفلسطينية، ولعل إدراك ذلك هو الذي دفع المجلس إلى ترك مقاعد شاغرة لملئها من الفصائل المقاطعة، مع أن الوحدة لا تتحقق بهذا الشكل، فهناك خشية من أن تبقى المقاعد شاغرة والكلمات حولها حبرًا على ورق .

في ظل التساؤلات حول كيفية اختيار الأعضاء من دون صفة تمثيلية ولا معايير موضوعية، واستبعاد أعضاء حتى أعضاء باللجنة التنفيذية والمجلس المركزي بصورة غير لائقة ولا قانونية مع أنهم أعضاء منذ عشرات السنين؛ يكبر سؤال الشرعية، ولا أحد يقدم تفسيرًا، في حين يرد رئيس المجلس صاحب السلطة على من سألوه عن إقصاء العشرات واستبدالهم بصورة غلبت عليها المحسوبية على من لهم صفة تمثيلية وفاعلون، أو على عزم ضم من يستحقون بأنه لا يعرف أو شطبوه أو لم يوافقوا عليه، وكأنه ليس صاحب السلطة، أو أنه أوصى ولا يعرف لماذا استُبعد فلان واعتمد علان، أو لأنه حصل على ما يريد سلفًا وبقي في منصبه والثمن غالٍ جدًا وهو التغاضي عن كل شيء.

سألت الكثير من الأعضاء المشاركين عن المجلس فقالوا إنهم لا يعرفون ما جرى، فهو مثل "الحمام المقطعة مزاريبه" "أو "المؤتمر غير المنظم"، فقد شُكِّلَت لجان قبل المناقشات، وتحول المجلس إلى منبر للخطابة لا علاقة له بعمل اللجان، بحيث يصعد كل واحد ويتحدث بما يحلو له، بوجود أو عدم وجود مستمعين،كما لم يكن هناك التزام بجدول الأعمال، إذ من المفترض مناقشة كل نقطة على حدة، لدرجة أن لجنة الصياغة صاغت البيان السياسي قبل سماع وجهات النظر والاقتراحات.

قال لي أعضاء في المجلس: عندما وصلنا إلى الجلسة الختامية لم يُرد صائب عريقات قراءة البيان السياسي الذي توصلت إليه اللجنة السياسية، ولكنه تلاه بعد إلحاح من بعض الأعضاء. وقد عُدِّل البيان أثناء النقاش بشكل جيد بصورة عامة، وخاصة فيما يتعلق بالإجراءات العقابية على قطاع غزة التي نصّ على وقفها وإلغائها وليس إعادة النظر فيها، ولكنها سقطت من البيان الختامي، كما سقطت الفقرة التي تتحدث عن الإحالة إلى محكمة الجنايات الدولية.

كما لم نجد في البيان الختامي الفقرة التي تحدثت عن تفويض صلاحيات الوطني بالكامل للمجلس المركزي، مع أن هذا بحاجة إلى عملية معقدة لتغيير النظام الأساسي تستغرق أيامًا، وحتى ما هو وارد في البيان حول اعتبار المرحلة الانتقالية منتهية، وتعليق الاعتراف بإسرائيل، ووجوب تنفيذ قرارات المجلس المركزي في دورتيه الأخيرتين، وما شابه ذلك، فلا يوجد أي ثقة بأنها ستجد طريقها للتنفيذ.

حتى الأمر الجيد الذي أعلنه الرئيس محمود عباس في الجلسة الختامية حول صرف رواتب الموظفين، لم يُطبق ولم يأت نتيجة ضغط أعضاء المجلس الوطني وبعض القوى التي أصرت على ذلك فقط، بل جاء أساسًا جراء مطالبة إسرائيل وأوروبا والولايات المتحدة وإصرارهم على صرف الرواتب على خلفية الخشية من مسيرة العودة، واستباقًا لما سيحدث يومي 14 و15 أيار، إذ من المتوقع أن تصل المسيرة إلى ذروتها.

ما أقلقني، إلى حد عدم النوم ليلة الخميس الجمعة ولا لدقيقة واحدة، المشهد المأساوي المتمثل برفض الرئيس بدعم من مختلف القوى فَتحَ باب الترشيح، بحجة أن هذا هو التقليد المعمول به في المنظمة، وأن الترشيح والانتخاب كما قال رئيس المجلس يأخذ وقتًا. غير أن هذا الأمر مخالف للنظام الأساسي الذي ينص على إجراء الانتخابات. ولعل هذا أسوأ ما حدث، فقد فُرضت اللجنة التنفيذية والمجلس المركزي فرضًا، ما يؤكد أن مؤسسات المنظمة جرى إعادة هندستها على مقاس فرد واحد، هو الرئيس، حتى اللجنة المركزية لفتح كانت في العديد من المسائل المهمة آخر من يعلم.

ومن الأشياء المقلقة جدًا عدم الالتزام بالنظام الأساسي الذي ينص على انتخاب مدير الصندوق القومي بصورة فردية ومنفصلًا عن بقية أعضاء اللجنة التنفيذية، لتقويته في مواجهة الرئيس واللجنة التنفيذية، إذ حتى اللحظة لا نعرف من هو مدير الصندوق القومي.

على الرغم من أن الأعضاء مختارون على "الفرازة"، إذ لم يفلت سوى عدد قليل لدواعي الادعاء بالتعددية وتمثيل المجتمع المدني، ومع ذلك كانت هناك خشية من فتح بات الترشيح، لأنه كان سيفتح أبواب جهنم وسيطيح بقائمة التوافق.

هناك من قال لي إن عشرين عضوًا كانوا سيترشحون لو فتح باب الترشيح، والبعض قال لي أن العدد ربما سيصل إلى مائة، لدرجة لن يعرف أحد من سيفوز ومن سيخسر. فليكن ذلك، حتى يتم ترشيح من يستحق وليس أصحاب الولاء .

ثمة عذر أقبح من ذنب لتبرير عدم الالتزام بالنظام الأساسي الذي ينص على الانتخابات من خلال القول إن فتح باب الترشيح والانتخاب الفردي سيؤدي إلى سقوط مرشحي الفصائل وفوز مرشحي "فتح" الذين ضمن القائمة أو من خارجها، وذلك رغم أن معظم أعضاء المجلس الوطني أعضاء في "فتح"، يضاف إليهم مستقلون اسمًا، وهم في معظمهم ينافسون أعضاء "فتح" بالولاء لفتح، والأهم للرئيس. فإذا لم تكن هناك فرصة بالفوز لممثلي الفصائل أو غيرهم فلا حاجة لنا بهم، فهي في غالبيتها فصائل ميكروسكوبية، مهمتها الولاء لتبرير وجودها في الهيئات القيادية، الذي من دونه لا توجد لها فرصة بالتواجد.

لذلك، وقف المجلس على رؤوس أصابعه طوال أيام خوفًا من إعلان نبيل عمرو وصابر عارف وغيرهما عزمهم على الترشح، إلى أن تراجع نبيل مقابل إعطائه فرصه للإعراب عن موقفه في الجلسة الختامية، في حين ضاع صراخ صابر الذي لم يعط فرصة حقيقية للحديث.

هناك سؤال يطرح نفسه: كيف اعتُمدت المبادرة الوطنية كتنظيم في منظمة التحرير واستُبعد مصطفى البرغوثي كعضو في اللجنة التنفيذية، مع أنه يحضر منذ سنوات كعضو مراقب، ورغم تمثيل تنظيمات ليس لها، ولا لمن يمثلها، وجود وازن؟

كل ما سبق يهون مقابل الخطأ الخطيئة الذي ارتكبه المجلس الوطني بتفويض صلاحياته كلها أثناء غيابه للمجلس المركزي، فهذا لا يجوز وطنيًا ولا قانونيًا رغم الحديث بأنه لن يستخدم إلا لأسباب قاهرة، لأن من سيحددها هو الرئيس الذي هندس المؤسسات الجديدة على مقاسه وبشكل جديد، إذ أصبحت السلطة ورئيس حكومتها ووزرائها وموظفوها ورجال الأعمال المحسوبون عليها هم الأغلبية المضمونة في المجلس المركزي، وهذا يغير طبيعة المنظمة، وإذ لم تفلح المحاولة الأولى لاستكمال سيطرة السلطة على المنظمة من خلال إغراق اللجنة التنفيذية برئيس الوزراء والوزراء والموظفين، فقد تم ذلك جزئيًا في اللجنة التنفيذية وبصورة أكبر في عضوية المجلس المركزي، وهذا ينذر بالثبور وعظائم الأمور.

الأصل (المجلس الوطني) لا يعطي صلاحياته للفرع (المجلس المركزي)، لأن هذا يضرب مبدأ الفصل بين السلطات، ويضرب كذلك مبدأ الرقابة والمحاسبة والمساءلة، ويضع مصير الشعب في يد عشرات بدلًا من مئات رغم كل الملاحظات الوجيهة على مستوى تمثيلهم، وهذا لا يعطي قدرة أكبر على العمل والرقابة كما يعتقد البعض، ولكن يمنح الرئيس والسلطة التنفيذية حرية أكبر لجهة إمكانية حلّ المجلس التشريعي، أو إعلان قطاع غزة إقليمًا متمردًا، أو الدخول في مفاوضات جديدة من دون رعاية أو برعاية دولية شكلية، أو أي ترتيبات بخصوص استمرار الخليفة أو الخلافة من وراء الشعب الذي يجب أن يكون صاحب الحق بالاختيار عبر صندوق الانتخاب، الذي يجب اللجوء إليه فورا بعد توحيد المؤسسات والاتفاق على برنامج القواسم المشتركة .

كما أن الوكيل الموكل لا يجوز له أن يوكل أحدًا بدلا منه من دون الاحتكام إلى من وكله، فيمكن أن يوكل المجلس الوطني جزءًا صغيرًا من صلاحياته لفترة مؤقتة للمركزي، ولكن أن يفوض كل صلاحياته فذلك بمثابة تأبين له، ويعني أن دورة المجلس الوطني يمكن أن تكون الدورة الأخيرة ، خصوصًا أن قرار المجلس بخصوص اعتبار أن دورته هي الأخيرة والشروع بتشكيل مجلس جديد لم ينشر كاملًا، ولم يعط الاهتمام الذي يستحقه.

لقد غابت مسيرة العودة عن البيان الختامي مع أنها بارقة الأمل في الظلام الدامس، ولم تأخذ مسألة الوحدة الأولوية التي تستحقها، بل أعاد المجلس عزف أسطوانة تمكين الحكومة كشرط للوحدة من دون توضيح متطلبات ذلك، ما يضع الأمر كليًا في يد الرئيس الذي لم يبدر منه ما يشير إلى أنه تخلى عن معادلة "إما الحكومة تشيل كل شيء، وإما "حماس" تشيل كل شيء"، وهي معادلة لا تحل شيئا بل تبرر عدم عمل شئ، وأقصى ما يمكن أن ينجم عنها إدارة للانقسام أو تقاسم وظيفي بين "فتح" و"حماس".

إن ما نحتاج إليه سلطة تعددية تشاركية، مؤسساتها وطنية تعددية مهنية، وخصوصًا أجهزتها الأمنية، التي يجب أن تكون بعيدًا عن الحزبية والفصائلية، بحيث يكون الاختلاف والتنافس في إطار الوحدة، وضمن مؤسسات موحدة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وضمن سلطة سيعاد النظر في وظائفها لتصبح قولًا وفعلًا أداة من أدوات المنظمة، وفي خدمة البرنامج الوطني المشترك.

يبقى بصيص من الأمل يتمثل ببلورة ضغط سياسي وجماهيري متصاعد ومتراكم من كل الحريصين والغيورين على المصلحة الوطنية، ليستطيع فرض الشروع فورًا بالتحضير لمجلس جديد، يكون ممثلًا حقًا لكل التجمعات ومختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي، وبمشاركة النساء، والشتات، والشباب الذين غابوا تقريبًا كليًا عن المجلس الوطني، والمقصود بالشباب ليس العمر فقط، بل أن يكون من يمثلهم ممن يتحلى بالحيوية والطاقة والإبداع والفاعلية والصفة التمثيلية .