في هجاء «الفرح»..!!

حسن خضر.jpg
حجم الخط

كانت رام الله، يوم الأحد الماضي، ساحة حرب تدوي فيها طلقات الرصاص والمفرقعات. وهذا ما كان في مدن وبلدات مختلفة، في الضفة الغربية وقطاع غزة. المناسبة إعلان نتائج الثانوية العامة. وجاء في الأخبار أن أحد الناجحين، في غزة، لقي مصرعه برصاصة طائشة.
يمكن تفسير "الفرح" بطريقة كهذه من مداخل مختلفة. ولكن أحداً لن يتمكن من القبض على الدلالة العميقة "لفرح" استمر منذ لحظة إعلان النتائج، وحتى ساعة متأخرة من الليل، دون التوّقف أمام ما فيه من طاقة ودلالة العنف. "فالفرح" مجرّد قناع لما هو أبعد وأبشع.
من تحصيل الحاصل، طبعاً، التذكير بحقيقة أن هذا المجتمع مسكون بالعنف. وإذا كان في دلالة كهذه ما يمثل مدخلاً للتفكير والتدبير، فلن يستقيم الحال دون وضع اليد على العلاقة بين العنف ومبدأ الفرجة، أو المشهدية، وهي تعدٍ وعدوان على الآخرين. هناك، طبعاً، حفلات الزفاف والليالي الملاح، التي تُفسد النوم في هذا الحي أو ذاك، الذي شاء حظ ساكنيه أن أحداً من قاطنيه قرر أن "يفرح".
يمكن، بالتأكيد، تفسير مصادر العنف بالكلام عن الاحتلال. الشمّاعة المثالية التي يُعلّق عليها الناس كل ما يخدش صورتهم المثالية في المرآة. بيد أن مجتمعات عربية وإسلامية لا تعيش تحت الاحتلال، وتتجلى في تعبيراتها عن "الفرح" تلك العلاقة المعقّدة بين العنف والمشهدية، بكل ما فيها من عدوانية.
في برلين، مثلاً، يمكن أن "يفرح" الأتراك، بالزواج، في سيّارات تدوي أبواقها بكثير من المُبالغة في الشوارع. صحيح أن الظاهرة تظل محدودة، ولا تُقارن بما يحدث في بلاد العرب، ولكن لا علاقة لهذا بالدوافع، بل بمدى حرص الدولة على ضبطها. ففي بلاد الجرمان، أيضاً، يمكن أن تستدعي الشرطة لأن غسّالة جيرانك تشتغل بعد الساعة العاشرة مساء.
بمعنى أكثر مباشرة: في العلاقة بين العنف والمشهدية ما يُحيل إلى معنى ومبنى فكرة المواطنة، والفردانية، والضمير المدني، في الثقافة السائدة لهذه الجماعة البشرية أو تلك، وما يُحيل، أيضاً، مدى قوّة أو ضعف الدولة، ومركزية أو هامشية المواطنة، والفردانية، والضمير المدني، في فكرة الدولة عن نفسها، وعلاقتها بمواطنيها، وطريقة توليدها وحمايتها للقانون العام.
الأصل، في الاجتماع البشري، بالعودة إلى هوبز ونشوء الدولة تقييد الحالة الطبيعية، أي قانون الغاب: الكبير يأكل الصغير، والقوي يفتك بالضعيف. بمعنى أن الاجتماع نفسه مسكون بالعنف، وأن الدولة تجرّد الأفراد منه، وتحتكر الحق في ممارسته، لتحقيق المصلحة العامة، والسلام الاجتماعي.
وعلى هامش أفكار كهذه ثمة مدارس مختلفة بشأن أولوية الخير أو الشر لدى الإنسان، وحقيقة أن الدولة نفسها يمكن أن تكون أداة في يد طبقة اجتماعية، أو جماعة بعينها، لممارسة العنف، الذي يكون أكثر نجاعة كلّما أصبح أقل مشهدية. وفي الماركسية، أي المدرسة الأهم في علوم السياسة والاجتماع والتاريخ، على مدار قرنين، تحليلات كثيرة للدوافع والآليات، وعلاقة هذه وتلك بإنتاج وحماية الثقافة السائدة، وفلسفة القانون.
في هذا ما يفتح أبواباً كثيرة. ولكن ما يعنينا ينحصر في إنشاء علاقة، لا غنى عنها، بين نموذج الدولة السلطانية ـ العثمانية ـ المملوكية، التي لم تكف عن التوالد، على مدار قرون، في النسق العربي ـ الإسلامي، وبين العنف. ينبغي لهذا أن يحدث على ضوء إدراك مؤلم لحقيقة أن دولة ما بعد الكولونيالية، الدولة القومية الحديثة (سمها ما شئت) أعادت وتُعيد إنتاج النسق نفسه، وإن يكن بلغة، ومفردات، جديدة. وهذا ما يتجلى في طوفان الثورة المضادة الذي يكتسح كل شيء، الآن، بعد فشل ثورات الربيع العربي.
ولا يكفي القول إن ثمة علاقة عضوية بين هذا النموذج والعنف، بل تفسير العضوي في العلاقة المعنية، فكلاهما يُسهم في توليد الآخر، ويظل مشروطاً به، فإن وهن هذا شد الآخر من عضده. لذا، لن يجرؤ أحد على إعادة نقد الثقافة السائدة، في النسق المذكور، بفرضية أن داعش تسكن في صميمها، بصرف النظر عن اللغة، والمفردات.
العنف، حتى وإن كان طريقة في التعبير عن "الفرح"، سياسي في المقام الأوّل. وبما أن السياسي ثقافي، في الجوهر، لن نتمكن من التفكير في "الفرح" والمشهدية، دون العودة إلى فلسفة الدولة في احتكار العنف، ومركزية أو هامشية المواطنة، والفردانية، والضمير المدني، في علاقتها بمواطنيها، ودون العودة إلى فكرتها عن نفسها، أي طريقة توليدها وحمايتها للقانون العام.
على أي حال، لا أمل في النجاة ما لم نفكّر في أن "فرحاً" كهذا يستدعي وقفة جدية مع النفس. مصادر العنف في بلادنا مُركّبة ومتنوعة. بعض المصادر لا علاقة لها بالاحتلال، بل بالثقافة السائدة. والأدهى أن ما له علاقة بالاحتلال، إن كان على شاكلة "فرح" كهذا، يمكن، لسوء الحظ، أن يأخذنا إلى ذكورة جريحة في علم النفس، أيضاً.
وقفة كهذه، إلى جانب شغل سلطات إنفاذ القانون، والجهات المعنية بالإعلام والمناهج الدراسية، هي شغل الجامعات. ما الذي يحول دون إنشاء أقسام لدراسات العنف في بلادنا؟ في الأكاديميا الغربية ما لا يحصى من الأدبيات، والمدارس، والتخصصات. لا أمل في نتائج سريعة، ولكن تحويل ظاهرة بعينها إلى موضوع للدراسة مدخل لا غنى عنه لتشخيصها، والقبض على حقيقتها، وسبل علاجها. وحتى يحدث ذلك، لن نكف عن "الفرح"، حتى وإن قتلنا طالباً برصاصة طائشة، يوم فرحه بالنجاح، في المناسبة التي "أفرحتنا"، وحتى إن تعدينا واعتدينا على آخرين، لا يشاركوننا "الفرحة".