بين غولن وأردوغان – في ذكرى محاولة الانقلاب التركي

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

بعد الانقلاب الفاشل (تموز 2016)، وما أن انتهى الموقف لصالح الرئيس المنتخب رجب طيب أردوغان، حتى وجه اتهامه لشخص مقيم في أميركا اسمه فتح الله غولن، بأنه الرأس المدبر للانقلاب.. وعلى إثر ذلك استغل أردوغان الحدث، وقام بشن حملة تصفية وتطهير واسعة النطاق، طالت مئات الآلاف في الجيش والشرطة والوزارات وكافة مؤسسات الدولة، تخلص من كل من له شبهة علاقة بالمدعو غولن، سواء بالاعتقال، أم بالطرد من الوظيفة.. 
على خلفية الانقلاب، انقسم العالم الإسلامي بين مؤيد لأردوغان وشامت بكل من طالتهم حملات التطهير، وبين من كان يتمنى نجاح الانقلاب، إضافة لمن اعتبروا ردة فعل أردوغان مبالغا في قسوتها وحدتها، وأنها تتناقض مع قيم الديمقراطية، التي يتغنى بها حزبه.
المهم أن غولن صار المتهم الأول، وصار مطلوبا للعدالة.. لا يعنينا هنا إذا كان مذنبا ومتورطا في الانقلاب، أم لا، حيث إنه نفى صلته به.. ما يعنينا في هذا المقال فهم أفكار الرجل، ومفاهيم حزبه، ومقاربتها بأفكار ومفاهيم حزب أردوغان، خاصة وأن الحزبين ينتميان لما يمكن وصفه بالإسلام السياسي.
يكاد يجمع المحللون على أن "نجم الدين أربكان" هو الأب الروحي والمؤسس للإسلام السياسي التركي.. بينما يعتبرون غولن الأب المؤسس للإسلام الاجتماعي.. إذ ركزت حركة غولن على الجانب الاجتماعي؛ فأسست مئات المدارس والجامعات والجمعيات الخيرية والمراكز الثقافية (في تركيا وفي أكثر من 180 دولة، بما فيها أميركا)، كما أنشأت شبكة إعلامية ضخمة (صحف ومجلات وتلفزيونات ومحطات إذاعية)، وأنشأت شركات خاصة واستثمارات تجارية في العديد من الدول، ونظمت مؤتمرات سنوية في أميركا وأوروبا بالتعاون مع كبريات الجامعات العالمية، من أجل الترويج للحركة، وأنشأت أيضاً منتديات للحوار بين الأديان.
وبالإطلاع على بعض أدبيات حركة غولن، وما نُشر عنها، نجد أنها أقرب إلى حركة صوفية، تفهم الدين بوصفه تجربة روحية بين الإنسان وخالقه، أي حصر الدين على المستوى الفردي.. ولا تطالب بتطبيق الشريعة، بل تنادي بمسؤولية الدولة في إدارة شؤون الناس، ولكن بالديمقراطية.. وقد قدمت نفسها كحركة دينية سياسية اجتماعية، تمزج الحداثة بالتدين وبالقومية والتسامح والليبرالية.. لذلك ربما، تميزت حركة غولن عن باقي الحركات الإسلامية الأخرى بأنها لاقت ترحيبا كبيرا في الدول الغربية، إذْ اعتبرتها "النموذج المعتدل" للإسلام، الذي تريد أن يُعمَّم في أوساط الجاليات المسلمة في كافة الدول الغربية؛ فهو بالنسبة لها نموذج منفتح على العالم، يقدم خطابا فكريا تنويريا، ينبذ الإرهاب والعنف، ولا يرى في أميركا والغرب عدوا للإسلام.
ومع ذلك، اتهِمت جماعة غولن بأن لها أطماعا توسعية، وأجندات سياسية، ولها هيكلية هرمية تشبه المنظمات السرية، وهناك من يعتبرها طائفة إسلامية، أو أنها تسعى لتكون كذلك.
الآن، لنرَ النموذج الآخر الذي يمثله حزب التنمية والعدالة.. إذ يرى مراقبون أنّ أيديولوجيته وسياساته متطابقة مع نهج الإخوان المسلمين، أو على الأقل بأنهما متحالفان.. ولكن مع فروقات مهمة؛ ففي تصريح نشرته قناة "روسيا اليوم"، اعتبر أردوغان، أنه من الضروري تحديث أحكام الإسلام، مشيرا إلى أنه لا يمكن تطبيق أحكام صدرت قبل قرون في العصر الحالي. وفي كلمة ألقاها  بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، استنكر تصريحات بعض رجال الدين الذين يزعمون "أن المرأة لا مكان لها في ديننا"، ووصفهم بأنهم لا يعيشون في عصرنا، وإنما في عالم آخر، وهم عاجزون لدرجة أنهم لا يعلمون بأن الإسلام يحتاج للتحديث. مناديا بإعادة فتح باب الاجتهاد لكي يكون الإسلام قادرا على قيادة الحياة الحديثة، موضحا، "لا يمكن تطبيق الإسلام بأحكام صدرت قبل 14 قرنا، وتطبيق الإسلام يختلف بحسب المكان والزمان والظروف وهنا يكمن جماله".
وقد صرح أردوغان في مناسبات عديدة بأن حزبه علماني، ووصف طبيعة وهوية نظام الحكم في بلاده بأنها دولة قانون ديمقراطية اجتماعية وعلمانية، وأن تركيا لا يمكن أن تتوقف عن مواصلة نضالها في مجالي الديمقراطية وحقوق الإنسان، ولن تتراجع عن العلمانية التي تضمن حرية العقيدة لمواطنيها.
وفي جولة له على عدة دول عربية بعد الربيع العربي، شملت مصر وتونس وغيرها، نصح أردوغان مضيفيه من قادة الأحزاب الإسلامية بتبني منهج حزبه في العلمانية والديمقراطية. الأمر الذي أثار حفيظة الكثير من قادة ومنظري الإسلام السياسي العربي، واتهامهم أردوغان بالخروج على الإسلام، وأن تجربته لا تمت للإسلام بصلة.
ومع أن المحللين يعتبرون "أربكان" أستاذ أردوغان الأول، والمؤسس الروحي لحزب العدالة والتنمية، إلا أن آخرين اعتبروا غولن الأستاذ الحقيقي لأردوغان.. لكنه انقلب عليهما، أو لنقل شقَّ لحزبه طريقا مغايرا لما تعلمه منهما، حتى أنه تنكر للأول، وناصب الثاني العداء. 
كان أردوغان وغولن حليفين في السابق، فقد ساهم التقارب بينهما في تحقيق أغلبية برلمانية في ثلاثة انتخابات متتالية. وقد تعاظم تأثير جماعة غولن خلال فترة تحالفها مع أردوغان، بعد موافقته على تعيين مئات من أتباع  غولن في مناصب داخل الحكومة، وداخل الجيش والشرطة. لكن الخلافات بينهما بدأت بالظهور بعد 2011. فسرها مراقبون بأنها صراع على الاستحواذ على أجهزة الشرطة والقضاء. وصل أوجه في 2013، عندما اتهمت جماعة غولن العديد من مسؤولي الدولة وأعضاء حزب العدالة بالفساد، فيما عرف باسم "تحقيقات فساد تركيا 2013"، وحينها اتهم أردوغان حركة غولن بفتح هذه التحقيقات لأسباب شخصية، نتيجة انتهاء التحالف بين الحزبين، وأن غولن يريد إسقاط الحكومة عن طريق انقلاب قضائي تُستخدم فيه تحقيقات الفساد كذريعة.
إذاً، نحن أمام نموذجين (علمانيين) يتبنيان خطابا إسلاميا، ويرى أتباعهما بأن حزبهم يمثل النموذج الأقرب للإسلام.. بينما يتضح أن كلا الحزبين يستخدم الدين للوصول للسلطة، أو للتشبث بها، ويناصب الآخر العداء، بنفس الخطاب، أو برده على الطرف الآخر. 
وتلك معضلة أحزاب الإسلام السياسي التاريخية.