اتفاق التهدئة وسياقات الثرثرة

e30ba9114c613e09366766481ce09eac.jpg
حجم الخط

 

بعد الذي تسرب، أو الذي ألمحوا اليه، عن اتفاق تهدئة بين العدو وحماس في غزة؛ بدأت الثرثرة، ودخل المحللون الاستراتيجيون على الخط، إنطلاقاً من مواقع القصف اليومي لغزة وسكانها والكادر الذي منها في الضفة نفسها، لكي يروا في الاتفاق المزمع، إعداماً للقضية. والغرابة في طرحهم، أنهم يفعلون كل ما يدمر القضية من خلال تدمير المجتمع ومؤسساته الدستورية، ويسرقون خبز الناس لكي ينعموا بالسيارات والرواتب والنثريات والأدوار، ولا يريدون لغزة، أن تؤدي أي عمل سوى أن أن تجوع وتشكو وتئن وتختنق. وكيف تكون هناك قضية بينما الشعب يألم على حال لم يمر عليه مثلها منذ أيام الحروب العثمانية، إن لم نعد الى حقب أخرى من التاريخ؟!

سيكون ما يثرثرون به صحيحاً، لو إن إتفاق الهدنة، سيجعل العدو يتجول في غزة مثلما يتجول في الضفة فيعتقل وينسف البيوت ويقتل أبناءنا. وسيكون الكلام صحيحاً، لو إن الحكم في الضفة، في ناظر شعبنا، أفضل وأرشد وأعقل وأعدل، من الحكم الحمساوي في غزة. وسيكون التأويل منطقياً لو كانت سيطرة حماس على غزة، أكثر إيذاءً للشعب وللقضية، من سيطرة عباس على الضفة باسم الشرعية والمشروعية. لقد بات شعبنا عالقاً بين طرفين ضاليْن، واحدٌ يأمن على نفسه وعلى  جبروته الغاشم في السياسة الاجتماعية والقرارات الداخلية، بالمنطقة العسكرية الإسرائيلية المركزية التي ينسق معها ويطارد النشطاء الوطنيين، وآخر يخنق الشعب فيما هو لا يأمن على نفسه من شيء، ووجهه وظهره الى الجدار والبحر، وقد اضطر رغماً عن أنفه، وبعد أن لامست تجربته في الحكم حدود الفضيحة، أن يستجيب لصيغ رفع البؤس عن غزة، وهو البؤس الذي شارك في صنعه الطرفان الضالان!

اتفاق التهدئة أفضل من اتفاق العداء لمن يفكرون في المقاومة وتقييد الشعب وسلب حريته وتدمير الروح الوطنية وإشاعة الإحباط في الضفة. وهو على الأقل، لا يقترب من سلاح الدفاع عن النفس، ولا من التسليم للعدو وفتح الشوارع له في غزة. ثم إن المعطيات، وليس الشعارات التي يمضغها الضالون ذراً للرماد في العيون؛ هي التي تحدد طبائع التطورات في السياسة. وهذه المعطيات، بوقائعها الاجتماعية، لا تتيح لمن يمسكون بمقاليد الأمور، الاستمرار في الدجل، تبريراً لبقاء هيمنتهم على مقادير الناس وحياتها.

لقد مُنح الضالون من الوقت سنوات طويلة، لكي يأخدوا بناصية الرشد، لكنهم ظلوا يعاندون على الباطل، فجلبوا للقضية الهوان وللمجتمع البوس والإحباط، حتى بات العدو نفسه ينصح بالكف عن خنق غزة، لأن انعكاسات الخنق، ترتد عليه ولو بطائرات ورقية، وهذا العدو، في الأصل، لا يهمه سوى نفسه وأمنه، ولا يحترم طائعية في الأمن وفي الإدارة!

لا مجال لجعل موضوع اتفاق التهدئة، معطوفاً على مدركات القضية ومحدداتها التاريخية والسياسية، أو معطوفاً على تلك الهمروجة التي يسمونها "صفقة القرن" حتى وإن تشابهت المفردات، في التركيز على المأزق الإنساني للناس في غزة.

إن القضية لا تضيع باتفاقات تهدئة ولا بصيغ حل معضلات الحياة، ولا بتعثر واختناق "أونروا". ولعل حماس تعلم، أن الذي حماها من غضبة الشعب في غزة، هو تداولها اليومي لمفردات القضية والمقاومة، وهذا الذي جعل الشعب يصبر عليها وقد ساعده على الصبر، أن سلطة رام الله التي تريد التمكين في غزة، من الباب الى المحراب، ليست عادلة ولا راشدة، وذات خطاب سياسي مقزز، وتحدد للشعب، موقعه تحت البسطار الإسرائيلي وتقدس التنسيق الأمني من تحت الحذاء،  وليست لها أية حيثية دستورية، وتحتقر غزة وكادرها التي قررت إقصاءه حتى ولو كان على رأس عمله في رام الله. فالناس لا تغضب وتهجم على حكم يؤلمها، لكي تأتي بحكم أخر يحتقرها ويخدش كرامتها ويحدد لها موقعها أسفل الحذاء!

أما في حال أن تجاوبت حماس مع خطط تضييع القضية ومع خطط شطب مفرداتها، فلا تعتب إلا على نفسها. إن البوصلة الصحيحة كامنة في رأس الشعب، لكن الحركة بموجب إحداثيات البوصلة، تبدأ عندما يطوي الناس أيام الحرمان من أبسط الاحتياجات ومن المَسْغبة التي هي الجوع في المصطلح القرآني. وهؤلاء الذين حرموا وجوّعوا وخنقوا الناس، يعرفون أنفسهم، إنهم الممهدون الحقيقيون لأكذوبة "صفقة القرن" لكي يظلوا يحكمون طوال قرن الصفقة!