خطاب النوايا في المثال الأردني

e30ba9114c613e09366766481ce09eac.jpg
حجم الخط

 

يُحسب للعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، أنه وقف في يوم الأحد المنصرم، أمام شعبه، متحلياً بالمسؤولية، وشَخّص المأزق، بأبعاده الإجتماعية والإقتصادية ــ الإدارية، ووضع الخطوط العريضة للخروج منه، لكي لا تحل الفوضى التي تؤذي الأردن وجيرانه وأقربهم نحن في فلسطين!.

عندما تكون هناك مشكلة طاولت حياة الإنسان، فإن من يتحسس واجبات مسؤوليته، لا يتغاضى عنها ولا يلجأ الى العناد والغرور، ولا الى الكذب، وهذا درس يتوجب علينا أن نتأمله بعمق، لا سيما وأننا في فلسطين، أحوج من غيرنا الى التماسك الاجتماعي، لكي نستطيع مواجهة التحديات، ومعظمها ذات طابع وجودي، تتعلق بمصيرنا ومصير قضيتنا، إذ بات انقسام المشهد الفلسطيني أحد أخطر مسببات مأزقنا الكبير. فالوطن والمجتمع والقضية، أهم بملايين المرات من حاجة فاسد أو فاشل الى الإطمئنان على وضعه والاستمرار في سياقاته والبقاء في الصورة على كُرهٍ من الشعب.

الاعتراف بوجود انحرافات، عندما يصدر عن أعلى مرجعية سياسية في البلاد، دليل قوة واقتدار وليس دليل ضعف واندثار. إن بعض السُذج كانوا ولا يزالون، يحسون بالنشوة عندما تأمر السلطات القضائية الإسرائيلية، بضبط مسؤول شغل أو يشغل منصباً رفيعاً والتحقيق معه في قضايا فساد أو تحرّش، ويتوهمون أن الوقائع من هذه الشاكلة، دليل وجود عوامل ضعف وانهيار وشيك للمشروع الصهيوني، علماً بأن العكس هو الصحيح، لأن دولة الإحتلال، تبرهن على أنها أقوى ممن يقودونها، وعلى أن الرأي العام أهم بكثير من سمعتهم مهما بذلوا في حياتهم من خدمات لإسرائيل، وأن المؤسسات هي التي تحسم أمرهم، وليس الخطابات البليغة والتصريحات، وأن التقاضي بين الدولة ومن يحكمونها مُتاح لمصلحة الدولة وسكانها وجيشها الغاشم!

في الأردن، لم تجد مؤسسة القصر أجدى ولا أشرف من إظهار تفهمها لما يدور في عقل المواطن ومن تعاطفها مع الشارع وتقديرها لظروف الناس. وللتذكير، كان سلوك القصر في الأردن، عندما ظهرت بوادر حراك شعبي، أيام هبوب رياح الاحتجاجات التي سُميت ربيعاً عربياً، هو الذي أنقذ الأردن، وجعله يجتاز المرحلة بدون انفجار اجتماعي وخسائر. فقد تعامل القصر بذكاء وتواضع، وبادر الى  تقديم تنازلات مهمة، على صعيد الحريات والحقوق، وسارع الى تأسيس محكمة دستورية عليا، وهيئة للانتخابات مستقلة فعلاً لا قولاً. لكن منظومات الفساد، لم تفارق طبائعها، فأنتجت المشكلة تلو الأخرى، ووصلت بالشارع الى مفترق الطرق الذي تحدث عنه العاهل الأردني يوم الأحد الفائت!

القصور العربية الأخرى التي ركبت رؤوسها وعاندت وتعاملت مع شعوبها بغرور منقطع النظير؛ أوقعت الفأس في رؤوسها ورؤوس أوطانها، على النحو الذي لا يتمناه الأردنيون لأنفسهم، ولا يتمناه الفلسطينيون لأنفسهم ولا للأردن الشقيق!

اليوم، لدينا في فلسطين، معضلة مُستَحكِمة ومغلقة لا تُفتح فيها ثغرة. مجموعتان تحكمان، في الضفة وغزة، تمضغ كلٌ منها الشِعر والأناشيد، تغنياً بجمالياتها. تحتقر المواطن وليس لديها أدنى استعداد لأن تتعاطف معه وأن تتحسس مرارة قلبه وهمومه. تطلب منه الدم والصبر والبقاء على فقره، وتحرمه من الحرية والتنمية والضمان الاجتماعي والخدمات، ومن أية خفقة إنعاش لحياته، ولا تعطيه شيئاً. تراهن على حساسيته الوطنية وكراهيته للنزاع الداخلي. وفي السياق الضال الكذوب، يباهي عباس في الضفة، بنظافة البئية التي يزعم أنها تتفوق على مثيلاتها في الحواضر الزاهية، وتسقط من التقييم الإفتراضي، ومن غير سهو، قمامة غزة البائسة، إذ لا يراها عقل عباس الباطني، جزءاً من الوطن. وفي غزة نفسها، تُباهي حماس بحكومتها الربانية، وكأن مندوبي السماء، عندما يحكمون، يجلبون البؤس والقمامة والفقر مع كل ما يتسبب فيه من الضياع والتردي الاجتماعي بكل آفاته. والأنكى، أن كل طرف منهما يسعى الى المزيد من التمكين، كأنما كلٌ منهما جبّار حضاري مُبهر يستحق أن يتمكن.

في خطاب العرش الأردني، انعكست تجربة الحكم الطويلة، التي عرف من خلالها كيف يَسوسُ شعبه. يختار توسيع الطريق للناس الطبيعيين للوصول الى حال أفضل، وتضييقها على الفاسدين الذين لا يشبعون. سمع الشعب خطاب النوايا، وبات ينتظر وقائع الأعمال!